بقلم : خالد ناجي
مممممم. لماذا لا يستطيع النوم؟ هكذا سأل نفسه منذ 3 أيام ولم يستطع النوم منذ أن أعلنوا عن انتهاء العالم .
أهي حقًا النهاية ؟
اعتدل من رقدته وجلس على طرف سريره وهو يحدث نفسه للمرة المليون منذ أن سمع الخبر، كيف تأتي النهاية هكذا ؟!
كيف لا نستطيع أن نهزم هذا النيزك بكل ما وصلنا له من علوم؟
سبحان الله!
كومة من الصخور ستقضي على حياة الملايين، ليس ذلك وفقط بل ستقتلع كوكبنا من مكانه.
(ذهب أبعد بتفكيره) .
ماذا سيحدث لو ذهب هذا الكوكب من مكانه فعليًا؟ ماذا سيحدث لو اختفى كوكب الأرض؟! هل ذلك سيؤثر على باقي المجموعة الشمسية؟
هل ستتجمع مجموعه صخور أخرى مكونة كوكب جديد؟ ويخلق الله لها خلقًا جديدًا؟
يأس من محاولات التفكير في إنقاذ الكوكب أو التفكير فيما سيحدث بعد الاصطدام، وقرر أن يقضي يومه الأخير في فعل أشياء يحبها .
فلماذا يحزن ؟؟!
الدنيا كثيرًا ما أبكته وأبكت الملايين .
قد يكون أحب أشياءً كثيرة في الدنيا لكنه سيفارق ما يحب؛ ليذهب إلى ما هو أفضل منه هكذا الدنيا وداع دائم.
ثم إنه اشتاق لأحبائه .
هو الآن في أوائل الخمسينات، يعيش وحيدًا
لا زوجة..
لا ابن ..
لا أهل .
الكل رحل وتركه..
وكأنهم سئموا العيش معه..
فـماذا بعد الأهل والأحباب؟
نحن نشعر بمعنى الدفء في قرب الأهل والأحباب فقط.
إلى جانب أنه لا يوجد أصدقاء فهو لا يستطيع أن يستخدم المهارات البشرية من مجاملات ونفاق من أجل اكتساب الأصدقاء.
نفس عميق ..
وتنهيده حارة ..
لماذا الحزن الآن ؟
ألم تقل إنك تريد الذهاب إليهم؟
ها أنت ذاهب.
انتبه إلى فكرة أنه ذاهب إليهم، استعاد نشاطه فجأة، أضاء حجرته، نظر لنفسه في مرآته.
لاحظ خطين من الشيب يمنحانه وقارًا- معقول؟!- تحسس ذقنه، وتمتم، يجب تهذيب هذه .
نظر إلى انتفاخ تحت عينه اليسرى من أثر عدم النوم، وتذكر كم كان يضحك على النساء كيف يستعملن الخيار وأشياء أخرى في إخفاء أشياء لا يعلمها من وجههن ،وكيف كان يضحك من ذلك ؟!!
تحسس عينه اليسرى، وتذكر كيف فقدها في ثورة مرت منذ ما يقرب من ربع القرن، وتذكر رفاق دربه الذين فارقوا الحياة، وتذكر من تسببوا في ذلك ..
وكيف لم يحاسبوا ؟
وابتسم.
فـمع كل المرارة التي يشعر بها، إلا إنه يعلم أن ما عند الله باق، وها هي النهاية قد أتت، وسينال كل منهم حسابه من رب العالمين.
وفكرة أن يقابل رفاقه بعد كل هذا العمر، فكرة تسعده ..
مممممم؟ إذن كيف ستقضي هذا اليوم؟ تمنى لو كان في شبابه، بالتأكيد كان سيختلف تفكيره في قضاء اليوم الأخير.
"لا شيء هناك، إلا البحر، ولا شيء يستحق مجالستي في آخر يوم، إلا البحر، فقد تحمل كثيرًا شكواي، فما أجمل النهاية على شاطئ البحر"
تذكر الشروق، إنه آخر شروق.
صعد إلى أعلى منزله مسرعًا ليرى الشروق..
الشروق الأخير..
إنه حتما شروق مختلف..
سيكون شروقًا بطعم الغروب ..
طعم الوداع..
شروق يضيء..
ويسقط ندى ..
بطعم البكاء ..
طعم الرحيل.
أي شروق هذا الملبد بكل هذه الغيوم؟!
أطلق سراح طيوره، أراد لهم يومًا مختلفًا، فليتمتعوا بحريتهم ولو ليوم أخير..
وقف دقائق يتابعهم محلقين في السماء فرحين..
ربما يعلموا أنها النهاية..
وربما لا..
ولكن لابد لهم من التحليق في هذا اليوم لأبعد ما يمكنهم الوصول له ..
ليته يستطيع إخبارهم بذلك.
ارتدى أفضل ثيابه، احتفظ بصور كل أحبائه بالقرب من قلبه، مسح على رأس زيكو صديقه القط، صديقه الوحيد ..
حاول أن يطلق سراحه خارج المنزل حتى يقضى يومه الأخير كما يحب، لكنه يرفض الذهاب، يبدو أنه متمسك بصداقتهم حتى النهاية..
نقل كل ما يريد إلى سيارته، استعداد للذهاب إلى آخر مكان ستطؤه قدمه.
نظرة أخيرة إلى حديقة منزله، تفقد كل الزهور التي طالما اعتنى بها ..
نظره أخيرة، وذهب بسيارته..
الشاطئ خالٍ تمامًا من البشر، يبدو أن الكل نفذ ما دعت إليه وسائل الإعلام بأن يجتمع الجميع في مكان واحد، ولكنه أراد نهاية مختلفة.
كما عاش وحيدًا..
سيموت وحيدًا..
اقترب بسيارته من الشاطئ أمام البحر وجلس ينتظر النهاية..
وأغلق عينيه يستعيد بعض الذكريات
طفولته..
شبابه..
الأشياء التي أحبها
والده..
والدته..
عائلته..
تذكر أوقات الفرح ..
أوقات الحزن..
وما أكثرها
ابتسم ..أخيرًا سيقابل أحبائه
هواياته ..
كم أحب التصوير والكتابة، ظل يردد طوال حياته أنه لم تتح له الفرصة للدراسة في أي منهم، أو يتعمق فيهم، مع وجود الوقت أمامه، إلا إنه لم يتعمق، إنه النصيب.
أو ربما انشغاله الدائم بعمله، أو ربما كما يقول دائمًا إن الدنيا لم تعطه الفرصة لأي شيء يحبه مطلقًا..
وقد اعتاد ذلك..
فلماذا البكاء عليها إذن ؟
نظر للأمواج المتلاطمة في غضب أمامه، وطائر النورس يحلق فوقها يسعى لالتقاط طعامه منها
تعجب! المنظومة جميعها تمشى وكأن شيء لن يحدث، الإنسان وحده من جلس في انتظار النهاية .
طيوره انطلقت تحتضن السماء ...
النورس يمارس محاولاته اليومية في العثور على طعام ..
الشمس أشرقت، وإن كان شروقًا باهتًا ...
حتى زيكو ..
يلعب إلى جواره بكره من الفراء...
هل هذا إيمانًا منهم بما سوف يحدث؟.
أم أنهم لا يدرون؟.
تذكر أنه أحضر خبزًا لإطعام النورس، أخذ الخبز واقترب من المياه لإطعامه، كم كان يعشق تلك اللحظات التي يرمي بما في يديه للطائر الجميل على سطح المياه ؛فيسقط الطائر إلى جوارها ويأخذها ويطير مره أخرى، ربما لا يدري ما سر السعادة في ذلك؟
ولكنه متأكد من أنه مصدر سعادة .
لماذا يبحث الآن عن تفسير لما يحدث في الدنيا وهو الذي لم يستطع يومًا أن يفهمها؟.
"أعطوا الدنيا على قدر عمرها، وإن عمرها والله قليل"
تذكر هذا القول، وهو في طريقه عائدًا إلى سيارته .
وتمتم "حقًا قليل".
فكر في أن أجمل ما في الأحداث أنه سيستريح من :
المنافقين..
الوصوليين..
جامعي الأموال..
وآكلي حقوق الفقراء..
سيفقدون كل ما جمعوا ...
كل ما تركوا القيم والأخلاق من أجله، ولن تنفعهم كنوزهم ولا مناصبهم
لا توجد وساطة الآن، فالكل أمام قدر الله واحد.
سيستريح من ظلم العالم، وعدم تقديره.
من كل مواقف الغدر والخيانة، من كل الجراح التي سببها هذا أو ذاك
وجد نفسه ينفجر ضاحكًا، من صدمة هؤلاء وندمهم على أفعالهم
ومع كل دقيقة تمضي، يزداد يقينه بان تلك الحياة فعلا لم تعد تستحق الاستكمال
لم يفكر يومًا أن في الموت راحة من كل هذه الأمراض.
ولكن ما شغل تفكيره فعليًا منذ بداية الأحداث. هل ستتوقف الحياة تمامًا، أم أن الحياة ستستمر بخلق جديد؟.
أم أن هناك من سينجو على هذا الكوكب البائس ليبدأوا حياة جديدة؟
الأمر محير!
كل الدلائل تقول إن الكوكب سيمحى تمام من الوجود، ولكن ليس كل شيء يمكن توقعه.
سبح في أفكاره، وغفلت عيناه لفترة من الزمن.
استيقظ فجاه على هزة ودوى عنيف، نظر حوله، وجد السماء بلون مختلف .
وأشياء تسقط من السماء، لاحظ اقتراب زيكو منه وانكماشه ..
احتضنه ..
لاحظ ارتفاع الأمواج وتلاطمها بشده مع ارتطام الصخور الساقطة ..
جلس مكانه محتضنًا قطه..وهو في انتظار أن يكون الصخر المقبل من نصيبه
فجأة ارتفعت الأمواج، وظلت ترتفع، وهو يراقبها ..
و هوت
مره واحده
و
وانتهى كل شيء.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر