هذا عرض كتاب "في الثورة" لحنّة أرندت (1906- 1975) وهي فيلسوفة وباحثة سياسية ألمانية وضعت كتاب "في الثورة" وتشرح فيه معنى الثورة وتبين أسبابها، وهي البؤس الاجتماعي والسعي وراء السعادة والحرية.
وفي السياق تقارن الكاتبة بين الثورتين الأمريكية والفرنسية. وقد تولد عن الثورتين نظام عالمي جديد يحرص على حقوق البشر وليس على الثروة والأملاك.
وقد خلق هذا التقليد الذي اكتسح العالم كنزا ثوريا يحرض على الثورات في كل مكان.
بنى المؤرخون القدماء، إغريق ورومان تفسيراتهم للتاريخ على "التعاقب غير القابل للتبديل في الميدان السياسي". لذلك طلبوا من الشباب رفض التغيير ليكونوا جديرين بأسلافهم لضمان الاستمرارية. تنتقد حنة أرندت القول بالاستمرارية والثبات والزعم بأنه "لا جديد تحت الشمس" وتتهم المؤرخين بأنهم أضفوا على الميدان السياسي وقارا لا يستحقه والخطير هو أنهم لم يأخذوا تغير الشؤون البشرية مأخذ الجد. وقد جاء ذلك في كتاب "في الثورة" لحنة أرندت الصادر عن المنظمة العربية للترجمة" بترجمة عطا عبد الوهاب.
بالنسبة إلى حنة أرندت فالشؤون البشرية تتغير باستمرار. وإن كان هناك من جديد تحت الشمس فهم البشر أنفسهم. لذلك تقول الكاتبة بإن كل ظهور جديد للناس يحتاج إلى كلمة جديدة خاصة في الجانب السياسي من الحياة حيث يسود الكلام سيادة مطلقة. لذلك تَعتبر أن التاريخ يبدأ من جديد مع الثورات بشكل لم يُعرف ولم يُكتب من قبل. فلماذا تندلع الثورات؟ ما ميكانيزماتها لتحقق أهدافها؟ كيف تنتهي الثورات وما كمية الدم التي تسيل من أجلها؟
طرحت هذه الأسئلة بكثافة في العالم العربي بعد سقوط زين العابدين بن علي في تونس. لكن هذه الأسئلة ليست جديدة. فقد أجاب عنها أرسطو قائلا إن للثورات أسباب محددة هي: أولا، غياب العدالة التوزيعة، ثانيا، الشعور بالظلم، ثالثا، وجود حالة ذهنية وعلى استعداد نفساني محبذ للتغيير. وهناك جواب عصري هو "تأتي الثورة عندما لا يكون للمرء شيء يخسره غير قيوده". والآن لنعرض جواب حنة أرندت في مقدمة وست فصول.
يعتبر الثوريون عنفهم شرعيا
تتناول الكاتبة علاقة الحرب والثورة لأن هذه العلاقة قد حدّدت ملامح القرن العشرين. كل عدوان هو جريمة. لكن لا ينظر للحرب بالطريقة نفسها. الحرب هي متابعة للسياسة بوسائل أخرى. للحروب مبررات قديمة، منها أن الشر كامن في الطبيعة البشرية بدليل البداية الإجرامية للتاريخ البشري (هابيل وقابيل). لكن يفترض أن وسائل الدمار الحالي تجعل الحرب مستبعدة في كل حساب عقلاني. على أساس هذا الفرض جرى التفكير في سياسة خارجية دون حروب. أو في حروب نظيفة على الأقل. الغريب أن القرن العشرين عرف الإبادة الجماعية وهي أول قتل جماعي منظم وهذا موضوع تناولته الكاتبة في مؤلف آخر. المهم أنه في الحديث عن الحرب، ما أبعد الأماني عن الوقائع. لكن بالنسبة للثوريين فقد كان السلاح مقدسا لأنه لا أمل بدونه. لذلك تكون الثورات عنيفة ودموية لحين إقامة نظام جديد.
في شرح معنى الثورة
الثورة مصطلح فلكي الأصل، انتقل لوصف شؤون البشر في القرن السابع عشر. يرتبط مفهوم الثورة ببداية جديدة للتاريخ. هي قصة لم ترو سابقا. الثورة هي الحرية. الثورة حركة لا تقاوم تهز العالم القديم. بدأت الثورة الفرنسية في 14-7-1789 حين عرف لويس السادس عشر بسقوط سجن الباستيل وتحرير السجناء وتمرد الجيش وهجوم الشعب.
ترتبط الثورة في أذهاننا بالجدة والبداية والعنف. ما شكل هذه البداية؟
لذلك أسماء مختلفة. فعندما يتم إسقاط الحكومة القائمة من قبل الأغنياء تسمى الحكومة الجديدة أوليغارشية لأنها تمثل القلة. الأغنياء دائما قلة. وعندما يتم إسقاط الحكومة من قبل الفقراء وهم الأكثرية تسمى حكومتهم ديمقراطية. كانت الثورة تغييرا في عقيدة الفقراء الذين آمنوا بالمساواة في العصر الحديث. الثورة هي فتح المجال السياسي للشعب. هي الحق مقابل الواجب. هي السياسة كتعاقد.
من هو الشعب؟
يتكون الشعب من ناس في المستوى الواطئ ص103. الشعب هو كل الناس. هذه فكرة خاطئة مصدرها الاعتقاد بالمساواة الفعلية. تناقش الكاتبة فكرة المساواة وتلاحظ أن هناك مساواة في القانون لا في الظروف. كمثال كان الميدان السياسي قديما مفتوحا فقط للذين يملكون العقار والعبيد. بالنسبة إلى الكاتبة فالحرية والمساواة ليستا شيئا معطى. فكل من يتعرض للضغط ليس حرا. لذا فالحرية والمساواة مصنوعتان، وهما من منتجات الجهد الإنساني.
البؤساء هم قوة الأرض
إن البؤس الاجتماعي هو السبب الأول للثورة، لذلك تقول الكاتبة "لقد كانت الضرورة والحاجة الملحة للناس هي التي أطلقت العنان للرعب وأدت بالثورة إلى مصيرها المحتوم". وبسبب الضرورة والحاجة كان الفقر قوة سياسية من الطراز الأول. يندفع البؤساء بسبب الحاجة والغضب. إن الفقر مهين لأنه يضع الفقراء تحت الإملاءات المطلقة لأجسادهم. إنه ثقل ضرورة الطعام واللباس. تحت هذه الإملاءات قام الفقراء مدفوعين بحاجات أجسادهم بالبروز للعيان في مشهد الثورة الفرنسية.
سابقا جرى التعامل مع الفقر كظاهرة طبيعية، لكن العصر الحديث أثبت أن الفقر ظاهرة سياسية لا ظاهرة طبيعية. العنف والفقر والاضطهاد من صنع الإنسان. وبالنسبة إلى ماركس فالفقر نتيجة للاستغلال. ومن هذا المنظور أدخل ماركس السياسة في الاقتصاد فجعله اقتصادا سياسيا. صار للثورة بعد اقتصادي. إن الحاجة إلى الطعام أكثر قهرا من القوة والقمع.
صار للمسألة الاجتماعية دور ثوري في العصور الحديثة لأن الناس صاروا يشككون في كون الفقر كامن في الشرط الإنساني. لم يعد ينظر للفقر كحالة حتمية أزلية. لم يعد الناس يقبلون التمييز بين الأكثرية الفقيرة والأقلية التي حررت نفسها من أصفاد الفقر بفضل الظروف أو القوة أو الغش...
كان الفقر سبب الثورة الفرنسية وسبب فشلها. فقد ثار الناس لأنهم لم يجدوا الخبز فنصحتهم ملكة فرنسا ماري أنطوانيت "إذا لم يكن هناك خبزٌ للفقراء دعهم يأكلون كعكا"، لم يجدوا لا خبزا ولا كعكا لذا قال كارل ماركس "فشلت الثورة الفرنسية لأنها لم تحل المسألة الاجتماعية".
هدف الثورة الحرية والسعادة العامة
ما هي الغاية من الثورة ومن الحكومة الثورية؟
طالب الثوريون الفرنسيون بالحرية وطالب الأمريكيون برفاهية الشعب. تريد الثورة القضاء على بؤس وتعاسة الأغلبية حتى لو جرى ذلك بالعنف. وهو عنف تم تبريره بالضرورة. ضرورة تحقيق العدالة التي غيبها النظام السياسي القائم. وتشترط الثورة التنظيم لتحقيق الأهداف، حتى أن عشرة رجال منظمين يعملون معا يمكنهم تخويف مئة ألف متفرقين. وعادة لا تقوم الثورة إلا ضد نظام سياسي معتل منخور الأسس. لذلك سقطت الحكومات بسهولة لا تصدق.
لفهم أهداف الثورات تقارن الكاتبة قادة الثورة الفرنسية والأمريكية. لقد قاد رجال الأدب الثورة الفرنسية وكانت استعداداتهم مسرحية. كانوا غرباء عن المجتمع متحررين من عبء الفقر ومتفرغين يدرسون مؤلفات اليونان ولديهم أفكار ومبادئ وكانوا كالرهبان ولم يعرفوا إلا القليل عن الواقع ويشفقون على الفقراء. كانوا رجال أدب - وسموا أنفسهم فلاسفة تنوير وهذا اسم مضلل. كانوا ينفرون من سير الشؤون العامة ويقودون الثورة بالاقتباس من الكتب وفضلوا العزلة والخصوصية وهم يكرهون الأسياد ويتوقون للحرية من أجل الحرية، ولم يفكروا في الدستور وكل هذا عقم سياسي تمثل في اختفاء الحرية بعد الثورة حسب أليكس دو توكفيل. بينما كان قادة الثورة الأمريكية يسخرون من "هراء أفلاطون" وهم على صلة بالواقع والتجريب والملاحظة الحقيقية وكانوا يعملون فعلا في المجال العام ويبنون السعادة العامة عبر دستور حر لكل ولاية أمريكية ثم كتابة دستور الاتحاد. وشرط السعادة هو الكد لتحقيق المصلحة في الأسرة والمكتب والمزرعة وقبول العمل في الميدان العام كواجب وعبء لا كحرية.
هذه هي أمريكا.
تكوين الحرية: نهاية الثورة هي تأسيس الحرية
إن هدف كل ثورة أو تمرد هو وضع دستور، يقول الثوري الأمريكي جون آدامز "لا قواعد الأخلاق ولا الغنى ولا انضباط الجيوش ولا كل هذه مجتمعة ستكون وافية بالغرض من دون دستور"، لذلك عمل الثوريون الأمريكيون على إنشاء سلطة وحكومة مع فصل وتوزيع السلط بين المؤسسات. وتحت تأثير الثورة الأمريكية، صاغ الفرنسي روبسبيار "مبادئ الحكومة الثورية". لكن فرنسا عرفت أربعة عشر دستورا بين 1789 و1875 مما جعل كلمة دستور تثير السخرية.
المطلوب من الثورة بعد قيامها أن تعمل على مأسسة الحرية وتأسيس حكومة. هنا تبدأ مشاكل إنهاء الثورة. فالحكومة الدستورية ليست ثورية، وهي مقيدة بالقانون. وهذه الحكومة هي سلطة.
وظيفة الدستور هو كبح تسلط الحكومة. من سيضع الدستور؟
هناك دستور تفرضه الحكومة على الشعب ودستور آخر تكتبه جمعية تأسيسية. النوع الأول يثير الشك وعدم الثقة في السلطة. والنوع الثاني نادر الحصول وهو تعبير عن تحرر الشعب. ومن مظاهر تحرر المجال السياسي بعد الثورة هي أنه لم يعد بحاجة للمباركة الدينية. لم تعد السلطة المنتخبة بحاجة لمصدر خارجي للشرعية. وذلك نتيجة حتمية لفصل الكنيسة عن الدولة.
خامسا النظام العالمي الجديد
تلخص الكاتبة التحول من النظام العالمي القديم إلى الجديد بقولها "كان الشعب قبل القرن العشرين مكشوفا بشكل مباشر ومن دون اية حماية شخصية من ضغوط الدولة والمجتمع، ولم يحدث [التحول] إلا حين برز الشعب حرا - من دون أن تكون لديه ممتلكات – لحماية حرياته". في هذه اللحظة التاريخية صارت القوانين ضرورية ليس لحماية الممتلكات كما جرى في القرون السابقة بل قوانين لحماية الأشخاص وحرياتهم. صار القانون في حماية الفرد لا في حماية الملكية والذين يملكون فقط.
كان هذا أكثر وضوحا في أمريكا، التي لم تكن فقط العالم الجديد بل تأسس فيها نظام عالمي جديد يعطي قيمة للشعب. وتقارن الكاتبة بين تصور رجال الثورة الفرنسية ونظرائهم الأمريكيين. يعتبر رجال الثورة الفرنسية أن القوة كلها تكمن في الشعب. وهذه قوة طبيعية من خارج الميدان السياسي تشبه الإعصار وقد أزاحت النظام القديم وأزاحت الحشود بل وأزاحت قادة الثورة أنفسهم. أما في أمريكا فقد ميز رجال الثورة بين العنف والقوة. رفضوا العنف الطبيعي وعرّفوا القوة بأنها متولدة من تجمع بشري ألزم نفسه بعهود ومواثيق وتعهدات متبادلة ملزمة تولدت منها الشرعية. تصدر القوة من تبادلية الثقة والالتزام. وكل قوة لا تقوم على التبادلية هي قوة مغتصبة. تصدر القوة من الشرعية فقط. وهذا هو سبب نجاح الثورة الأمريكية
إن المقارنة تساعد على فهم الثورات. وكل جمهور ينكر التبادلية، كل جمهور يرفض التعاقد ليس ثوريا بل هو رث.
التقليد الثوري وأثره المعدي
تتتبع الكاتبة مسار التقليد الثوري وآثاره، ودائما تضع في اعتبارها مقارنة الثورتين الأمريكية والفرنسية. وتشير إلى كتاب بعنوان "تأثير الثورة الأمريكية على أوروبا" وقد صدر سنة 1786. ويتضح من أثر الثورة أن ما بعدها لا يشبه ما قبلها. لقد أدت الثورة الأمريكية إلى قطع الصلات الروحية والسياسية بين أوروبا وأمريكا. لثلاثة أسباب:
أولا على المستوى الاجتماعي فقد احتقرت الطبقات العليا الأوروبية المادية والسوقية في العالم الجديد (يظهر هذا الاحتقار في علاقة الأرستقراطية روز - كيث وينسلت - بزوجها محدث النعمة في فيلم تيتانيك). ثانيا على المستوى السياسي اعتبر الأوروبيون أن التجارب الأمريكية في ميدان السياسية ليست جديرة بالتفكير. ثالثا: ثقافيا لأن العقلية الأمريكية تستهين بالفلسفة، تحتقر المفاهيم وتسخر من "هراء أفلاطون". نجحت الثورة الأمريكية لأنها مهتمة بالتجربة، ببناء المدينة لا بالتنظير للمدينة الفاضلة. وهذا نقيض الثورة الفرنسية المشبعة بالنظريات والمفاهيم.
نتيجة لذلك دخلت أمريكا في عزلة فأتيح للثورة الفرنسية الفاشلة أن تؤثر في باقي الثورات وتتشبه بها في روسيا والصين وحتى في أمريكا اللاتينية.
نجحت الثورة الأمريكية لأنها جرت في بلد فيه ثروات مهولة حمته من الشقاء والفقر. بلد أكد على قيمة القدرة على التحمل واعتمد على المواهب وفتح المجال للمبادرة الشخصية والأعمال الحرة.
تقول الكاتبة إن الثورة تفترس أبناءها والضرورة التاريخية ترغمهم. ووحدها الثورة الأمريكية لم تفترس أبناءها "إن حسن الطالع الفريد للثورة الأمريكية هو أمر لا يمكن إنكاره. لقد حدث في قطر لا يعرف شيئا عن مأزق الفقر الجماهيري، وحدث في صفوف شعب ذي خبرة واسعة بالحكم الذاتي".
فشلت الثورة الفرنسية لأنها لم تحل المسألة الاجتماعية. ومهما كانت النتائج فقد أثرت هذه الثورة على القرن العشرين الذي ساده ولع شديد بالحرية السياسية.
قد يهمك ايضا
منطقة " سيدي بوزيد" مهد الثورة التونسية ما زال غاضبة تنتظر تحسين أوضاعها
قيس سعيد يحظى بدعم شبابي ونبيل القروي يُحذر من اندلاع أعمال عنف
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر