الرباط - المغرب اليوم
بعد إصدار مارك دوغان، روائي وصحافي، وكريستوف لابي، صحافي التحريات والتحقيقات الأمنية والبوليسية في مجلة لوبوان، سنة 2016، كتابا بعنوان "L’homme nu, la dictature invisible du numérique"؛ ترجم سعيد بنكراد، أستاذ جامعي متخصص في السيميائيات، المؤلَّف إلى اللغة العربية وعنونه بـ"الإنسان العاري: الديكتاتورية الخفية للرقمية"، وصدر عن المركز الثقافي للكتاب، وهو موجود في المكتبات المغربية.
ووفق بنكراد فإن الكتاب عرف منذ صدوره مبيعات بلغت 100000 نسخة، وخصصت له الصحافة المكتوبة والمرئية الكثير من البرامج (خصص له برنامج on n’est pas couché نصف ساعة كاملة).
و"يعتبر المؤلفان كتابهما إنذارا وتحذيرا من الدمار العاطفي والذهني الذي يمكن أن ينتج عن إدمان رقمية تنتشر في كل الاتجاهات، يتعرى فيها المرء أمام الجميع، أمام نفسه وأمام شركات التسويق وأمام استخبارات الدول الصغيرة والكبيرة".
وتناول الكاتبان حسب الأستاذ الجامعي ذاته هذه الرقمية في مظاهرها المتعددة، "ما يسمى حاليا "الاتصال الدائم" الذي يفصل المرء عن واقع حقيقي لكي يقذف به في افتراضية مصنوعة من الصور وحدها"، مضيفا: "إننا نخرج من عالم اللغة بكل طاقات الاحتمال والنقصان فيها إلى نظير بصري يوهم المبحر بأنه في قلب الحياة. فكل شيء زائل في صور غير موجهة إلى خلق متعة في العين، بل فقط بالبحث فيها عن لحظة عابرة".
وتابع الحاصل على جائزة المغرب في الترجمة سنة 2010: "لقد نسي الناس ما يُصنف خارج الصورة، فالحقيقة فيها وحدها، ولم يعد من الممكن أن يستعيدوا وعيهم وحريتهم في رؤية الحياة خارج ما تقترحه الشاشة أو تدعو إليه. إنه الاستلاب المطلق، فما تقترحه الصورة كامل ومصفى وخال من تعقيدات لم يعد الذهن الرقمي قادرا على تحملها. وكما كان نرجس عاشقا لصورته وحدها، فإن الفايسبوكي لا يبحث في الشبكة سوى عن نفسه، عن شبيهه أو نظيره. إنه "يناضل" و"يحتج" ويتمرد" في الافتراضي، وتلك وسيلته المثلى للتعايش مع واقع يحيط به النقصان من كل الجهات. إن "أنا" واحدة لا تكفي، نحن في حاجة إلى "بديل" آخر هو الذي يغطي حضورنا في عالم موحش يحيط فيه "الأصدقاء" بنا من كل جانب، هو ما تسميه إلزا غودار "الأنا الرقمية"، "إننا جميعا ولكن وحدنا"".
إن الصورة، حسب المدير المسؤول عن مجلة علامات، ليست مودعة في الكتب التوثيقية والألبومات العائلية، كما كانت قديما؛ "إنها الآن منتشرة في كل مكان. لقد تراجعت حقائق الوجود وحقائق اللغة التي هي مصفاة وجودنا وسبيلنا إلى حقائق تُبنى في المفهومي والمتخيل، لتحل محلها حقائق الصورة وحدها، فلا شيء يستقيم بدون رديف بصري هو الذي يصدِّق على التجربة. فما نعاينه الآن هو اندفاع أهوج نحو حالات الاستعراء والاستبصار والتلصص والاحتماء الدائم بما يأتي إلى العين ضمن قوة البصري وحده، في انفصال عن موحيات النظرة وجماليتها. وذاك هو سلوك هواة "السيلفي"، فهم يتلذذون بالصورة كما يفعل كل النرجسيين الجدد، أو كما يفعل ذلك الخائفون من زمنية تُدمر كل شيء في طريقها: إنه القلق الذي يتحكم في "كائن منذور للموت".
لقد تغير كل شيء في حياة إنسان القرن الواحد والعشرين، يردف أستاذ السيميائيات بجامعة محمد الخامس بالرباط، إذ "لم يعد الناس يعيشون ضمن هذه الثورة باعتبارهم كينونة مستقلة تتغذى من القيم وتنتشي بكل مظاهر العزة والكرامة والاستقلالية في القرار وفي العواطف. لقد طمرت اللحظةُ ذلك "الثقب" الزمني الذي نطل من خلاله على المستقبل، وغطت عليه رغبات تتناسل باستمرار دون أن تقود إلى إشباع حقيقي. إننا نحيا الزمن باعتباره "لحظة أبدية"، بتعبير جان بودريار، أو ما يطلق عليه "الحضورية"، وهي صفة جديدة لزمن تخلى فيه الإنسان عن المستقبل والماضي بكل الحنين والأمل فيهما، لكي ينغمس في حاضر لا أفق له سوى نفسه".
وأبرز بنكراد أن الناس تخلوا عن كل شيء في حياتهم، كما يؤكد ذلك المؤلفان، إذ "تخلوا عن حميميتهم وحريتهم، وتخلوا عن حقائق واقع فعلي لكي يحتفوا بعوالم افتراضية أنستهم دفء الإنسانية فيهم؛ فلا شيء في وجودهم يمكن أن يستقيم خارج الافتراضية والمواقف المبرمجة في الصور والألعاب والمعلومات التي تسربها الأجهزة الصريحة والخفية. لقد حل "الأيدولون" (الصور العرضية والهشة) محل اللغة. إننا لا نبني العالم كما توحي به كلمات مطواعة أو عصية، بل نكتفي باستقبال ما تقوله الصورة وحدها. لقد تخلت اللغة عن وظيفتها باعتبارها "بيتا للكينونة"، لكي تترك المجال أمام "إيموجات" (imogi)عرضية، ما يشبه لغة تكتب بالصورة تتساوى داخلها كل العواطف".
وللشرح أكثر، أوضح الحاصل على جائزة الأطلس الكبير في الترجمة، فرنسا، سنة 2006، أن سلوك الإنسان أصبح متوقعا، وبذلك فهو قابل للبرمجة والتوجيه. "لقد كان بإمكان الشرطة وكل الأجهزة السرية أن تعرف عن الناس كل شيء، إلا ما تقوله النفس لنفسها، فتلك مناطق ظلت عصية على كل الطغاة. أما الآن، فإن الفاعلين في الميدان الافتراضي يعرفون عن المرء ما خفي عنه أو ما لم يفكر فيه أبدا. فهم يتتبعون خطواته في الإبحار ويتعرفون على ميولاته الواعية واللاواعية، ويلتقطون تفاصيل "شخصيته" من الصور التي يشاهد والبرامج التي يختار، وتلك التي يرفض، ومن الكتب التي يقرأ والفقرات التي يقفز عليها. وبذلك لم يعد للفعل السياسي أي معنى، فاللوغاريتمات كافية في توجيه الرأي العام، وهي التي تحدد له "توجهه السياسي"، كما حددت له رغباته وشكل تحققها".
إن "المبحر" يعتقد أنه يتحرك في المكان وفي الزمان كما يوهمه بذلك "الوجاه الرقمي"، يورد بنكراد، ولكنه ليس في أي مكان في واقع الأمر، فعندما يقرر الإبحار ينفصل عن الزمن الحقيقي لكي يُلقي بنفسه ضمن زمنية بلا حدود، هي في واقع الأمر "لحظة عائمة" لا تستقر على مضمون بعينه، لأنها مدعوة إلى التجسد في صورة تتغير مع كل "نقرة". "يوهمه الاتصال الشامل بأنه مرتبط مع كل الناس ضدا على الحدود وحواجز اللغات والثقافات، والحال أنه يتحرك وحيدا داخل فضاء افتراضي مفصولا عن العالم الواقعي".
إن مضمون هذا الكتاب لن يروق بعض الفايسبوكيين لأنه يعري حقيقتهم، يضيف السيميائي المغربي، "لن يعجب هذا الكتاب الجالية المغربية القاطنة في الفايسبوك، على تعبير أحدهم، فهو يقلقهم ويشكك في نمط حياتي اعتقدوا أنه هو النمط الوحيد في الوجود. ولكنه تنبيه أيضا إلى أن الحياة ليست في الصور؛ إنها في الطبيعة، في المراعي والحقول والبحار التي تهب العين متعة هي ما تستبطنها في أفق إبداع حقيقي. يجب أن نعود إلى الحياة، أن نكتفي بتأمل البحر عوض التقاط صورة أمامه، ويجب أن نعيش لحظة حب حقيقية مع أصدقائنا عوض أن نقضي ساعات من النفاق ونرسل صورة 'بارتاج' هي تعبير عن زهو مزيف. يجب أن نحب الناس في الحقيقة لا أن نقول لهم 'لايك' و'جيم'. هو ذا النداء الذي يبعثه الكاتبان''.
وقد يهمك أيضًا