الرئيسية » مراجعة كتب

يعود الروائي المغربي مصطفى لغتيري لكتب التاريخ القديمة ويسائلها بحثا عن المكونات الرئيسية التي يمكنها إثراء محكيه الروائي وهو لا يكتفي بالتاريخ في بعده الوثائقي، بل يسعى إلى خلخلة صدقية هذا الأرشيف في سعي إلى بلوغ حقيقة المتخيل لا حقيقة الخيال، كما في روايته الأخيرة "تراتيل أمازيغية". ويستلهم صاحب "أسلاك شائكة" الأساطير المصاحبة للوثيقة التاريخية بوصفها تشتغل في اللاوعي وتستبطن المعلومات التي تحارب من طرف التاريخ الرسمي، فالكثير من الحقائق الإنسانية تتلبس شكل الأساطير والخرافات وتتخذها أقنعة كي تراوغ الرقابة الرسمية التي تسعى إلى خنقها وتهميشها واستئصالها. وفي ظل المتغيرات الجديدة التي حملها الربيع العربي، والحراك الذي تعرفه القضية الأمازيغية في المجتمع المغربي وغيره من بلدان المغرب الكبير سعى لغتيري إلى مساءلة هذه القضية في بعدها الاجتماعي-الثقافي وانعكاساتها على المنجز البشري، في ظل البنية السكانية الثقافية ذات التلوينات المتعددة. وتأتي رواية "تراتيل أمازيغية" التي صدرت مؤخرا عن دار المايا في سوريا في هذا السياق لتتخذ موضوع الأمازيغ محورا رئيسا لها في حلة سردية تجمع بين الوقائع التاريخية للقضية، وأبعادها التخييلية والثقافية. ويحاول مصطفى لغتيري عبر روايته إخراج هذه القضية من بعدها الأيديولوجي والسياسي ليركز على ثرائها الثقافي الذي يضيع في غياب التوثيق والتأليف الذي لم يبدأ إلا مؤخرا عبر مجموعة من الباحثين الذين حملوا على عاتقهم هذا الهم الثقافي. ويعرض الروائي المغربي في متنه السردي لحرب ضروس قام بها الأمازيغ ضد الرومان ردا للاعتبار واستردادا لكرامتهم، حيث كان الرومان يعتبرونهم شعبا رعويا لا قوة له على حمل السلاح والحنكة السياسية، فاستولوا على أرض الأمازيغ في مرحلة ما قبل الإسلام، واستنزفوا خيراتها وأسسوا فيها قلاعهم وملاعبهم ومسارحهم، لكن انتصار الأمازيغيين كسر شوكتهم وجعلهم يقلعون عن احتقارهم لهذا الشعب. ومع أن هذه الرواية تجنح إلى الخيال في كثير من محطاتها، فهي تعتمد على التاريخ وعلى الأساطير القديمة، لتشكل مادتها الإثنوغرافية سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية. فقد عاد لغتيري إلى المصادر التاريخية الكتابية منها والشفهية التي تدون وقائع وأحداث وعلاقات الأمازيغ ورحلاتهم بحثا عن الأمن والاستقرار، ومن هذه المادة المتفرقة صاغ الروائي المغربي عالمه الواقعي والمتخيل حول العنصر الأمازيغي الذي ضرب بجذور ثقافته في أعماق أفريقيا كلها، مستندا إلى طابعه السلمي واشتغاله بالفلاحة والصناعات التقليدية والأنشطة التجارية، متحاشيا الاصطدام بالحضارات والشعوب التي يلتقيها، متحليا بغريزة التعايش والتعاون. لذلك فقد كان هذا الشعب العريق -كما في الرواية- لا يجد مشاكل في تأسيس مجموعات بشرية حيثما حل وارتحل، بل كانت الحضارات المحلية ترحب به وتؤمن له الاستقرار، غير أن اعتداءات خارجية من حضارات طامعة كانت دوما بالمرصاد، تسعى إلى نهب خيراته ووأد اطمئنانه واستعباده، مثل ما فعل الرومان في متخيل الرواية. وإذا كان السائد والمعروف عن الشعب الأمازيغي أنه مهادن ميال إلى السلم، فهذا لا يعني أنه لا علم له بالسياسة وفنون القتال، بل بالعكس، كما تقر الرواية ومعها مصادر التاريخ، كان الأمازيغ شعبا باسلا، وشجاعا يقاتل بشراسة ويصمد إلى آخر رمق حتى ولو كانت الحرب غير متكافئة، مفضلا الفناء على الخضوع والاستسلام، خاصة لما يتعلق الأمر بهويته واستقراره وأرضه. وتسرد الرواية قصة أمير أمازيغي يدعى "غيلاس"، يتحلى بأخلاق حميدة ويرفض كل أشكال النفاق والتزلف، يتأمل الظواهر الطبيعية ويكتب الشعر، يحب فرسه "أودجاك" الذي اتخذه صديقه الوحيد، لكنه عندما التقى بالأمير الأفريقي النيجيري، الذي تعرض للاختطاف من طرف النخاسين، سيشتريه ويسميه "أوسمان" ويتخذه صديقه المفضل، لأنه وجد فيه المواصفات المطلوبة "الصدق، وحب الفروسية، والشهامة". سيواظب الرجلان معا على التزود بالعلم من الحكيم "إيفاو" الذي سيطلعهما على أخبار الشعوب وعاداتهم فيحفزهما ذلك للقيام برحلة طويلة يكتسبان خلالها معارف كثيرة وخصال حميدة، تتوطد علاقتهما أكثر فيهديه أوسمان صدفة تصبح تميمة غالية، ويهديه "غيلاس" بدوره نجمة في السماء، وبعد رحلة طويلة يعودان للقبيلة ليفاجآ بموت الملك. يتوج غيلاس ملكا للبلاد، ويتخذ أوسمان وزيرا له، ويزوجه اخته "تورين" ولكن اختطاف الرومان للأميرة "توسمان" خطيبته تجعلهما يلقنان الرومان دروسا في البطولة والحنكة السياسية، عكس ما كان الرومان يتصورون عن الأمازيغ. ويقول لغتيري على لسان الراوي: "ما شد انتباهي في كل ما جاء به الحكيم "إيفاو" تلك الحكايات عن شعبنا المتفرق في بلاد الدنياـ حكى لنا بفخر، بأنه أينما حل وارتحل وجد لنا إخوة من الأمازيغ يعيشون في الأرض الواسعة، منهم من يعيش في أعماق الصحراء مكتفين بشظف العيش، ومنهم من أسسوا ممالك وحضارات، وتربطهم علاقات متينة بباقي الدول الأخرى". ويضيف الرواي "حين يحكي الحكيم كل ذلك، يداعب خيالي حلم، يصر علي أحيانا، لكنه يمر عابرا في أحايين أخرى، حلم في أن يتحد هؤلاء الأمازيغ في دولة واحدة، يتوحدون فتقوى شوكتهم، وتكون رادعة لأمم الشمال التي تستقر ما وراء البحر..". إن رواية "تراتيل أمازيغية" دعوة إلى التعايش بين الثقافات رغم اختلاف عناصرها، والاعتراف بالمكون الأساسي للهوية المغربية الأمازيغية، ونبذ التفرقة التي يسعى البعض جاهدا لزرعها في المجتمع المغربي.

View on yeslibya.net

أخبار ذات صلة

الأحلام الشرقية للكاتب اللبناني عيسى مخلوف في طبعته الثانية
حكايات الرحالة البرتغالي "إيسا دي كيروش" عن افتتاح قناة…
صدور رواية "نساء البساتين" في نسختها الإيطالية
"سنوات التيه الأربعون" على مائدة مكتبة القاهرة الكبرى
كتاب "سالي والتابلت" ضمن مبادرة الشيخة بدور القاسمي

اخر الاخبار

"النواب الليبي" يُرحب بدعوة مجلس الأمن لوقف إطلاق النار
عقيلة يكشف آلية تشكيل المجلس الرئاسي الجديد
الخارجية الأميركية تدعو إلى وقف التصعيد وإطلاق النار في…
وقف عملية إجلاء الليبيين العالقين فى تركيا لحين عودة…

فن وموسيقى

هند صبري تُعلق على قضية الشاب المصري الذي تحرش…
نيللي كريم ترد على اتهامات تشبيه "بـ100 وش" بفيلم…
هاني شاكر يتمنَّى أن يكون المصريين "أكثر رقة" ويؤكّد…
أمينة خليل تُؤكّد أنّها لم تخَف مِن طرح القضايا…

أخبار النجوم

التونسية درة تؤكد أن طموحاتها الفنية أكبر مما حققته…
لوسي تكشف سبب غيابها عن موسم الدراما الرمضانية هذا…
فرح المهدي تؤكد أن دورها في "ورود ملونة" حقق…
ليندا بيطار تقدم مجموعة من الأغنيات السورية وتكشف عن…

رياضة

كورونا تؤخر التحاق أكرم الزوي بالفيصلي الأردني
إغلاق الحدود يحرم المحترفين الليبيين الالتحاق بأنديتهم
الهريش يشيد بمعاملة الجزائريين ويأمل استئناف الدوري قريبًا
الاتحاد الليبي لكرة القدم يدرس إقامة دوري جديد

صحة وتغذية

أطعمة تُخلصك من اضطراب المعدة والإسهال تعرف عليها
أسباب تجعلك تُدخل "شاي شاغا" في نظامك الغذائي
طبيب يعلن عن أكثر الخرافات المتعلقة الشاي
حالات الإصابة بـ"كورونا" في أفريقيا تُسجل مستوى جديد

الأخبار الأكثر قراءة