الصداقة هي تفاعل روحيّ بامتياز، وحوار عقلانيّ متّزن تُدخل الإنسان في علاقة متينة ووثيقة مع الطرف الآخر؛؛ فيغدو مرآتك الحقيقيّة. فالصّديق هو من يدلّك على ذاتك، يبحث فيك عن جمالك الحقيقيّ ويصوّب لك هفواتك وأخطائك دون حكم مسبق، والأهم يحافظ على أسرارك الخاصة جدًا مهما صعُبت الظروف أو تغيرت الأحوال أو بعُدت المسافات.
وفي حالة الصداقة بين المرأة والرجل -المعلنة طبعاً- يترفّع كل منهما عن الانزلاق في فخّ الغرائز والرّغبات، لأنّه -وضمن هذه العلاقة- لا يخاطب الرّجل المرأة كأنثى وإنّما كإنسانة، محترمًا كلّ قدراتها العقليّة والعاطفيّة، والعكس صحيح كذلك من قبل المرأة للرجل. ويتطلّب هذا الأمر نضجًا عقليًا وروحيًا بامتياز وثراءً أخلاقيًا منقطع النظير، كما يتطلّب محبّة صافية (أخوية) غير مغرضة.. وهذه هي الحالة (المثالية) للصداقة بين المرأة والرجل الّتي لا تدخل في إطار الحبّ، والحالة الوحيدة والوحيدة فقط التي قد تنجح فيها الصداقة بينهما، لأنها تبقى عند حدود العلاقة الرّوحيّة والعقلانيّة الأخوية، وتخلو من كلّ ما ينتج عن الحبّ من غيرة وتملّك ورغبة في الآخر.
ولكن ما يحدث حقيقة على أرض الواقع في حالة السريّة على وجه الخصوص - لأن السرّية لا تفرض ذاتها الا في حالة مخلّة أخلاقيًا ومرفوضة اجتماعياً- يبعد كل البعد عن المعنى المقدّس للصداقة السابق ذكره، فتكون العلاقة بين الطرفين عبارة عن مسرحية هزلية خاصة اذا كان أبطالها متزوجين، فيمثّل كل منهما على الآخر دور الضحية بنصوص درامية يتم حبكها بعناية لتتماشى مع الدور، ويقدم كل منهما نفسه قربانًا للآخر على هيئة البطل والمنقذ ومصدر الراحة والسعادة والمنطق، على الرغم لو أنهما ذاتهما في مؤسسة الزواج للآخر نفسها لتصرفا بطريقة مغايرة تمامًا عما يبوح به كل منهما للآخر للأسف الشديد.
إن المصارحة والصدق والثقة في تلك العلاقة السرية هي كالسمّ في العسل، الصدق هنا ماهو الا (قناع) لعملية تمثيلية يصور كل واحد (أناه) في أحسن صورة ويجمّل مظهره ويتزيّن في كلامه ولا يقبل كشف حقيقته أو عيوبه للطرف الآخر. بل على العكس؛ أوضح ما في هذه العلاقة الكذب والمخادعة سواء على نفسه أو على (الصديق السرّي)، وأكثر ما يشي بالتظاهر الكاذب؛ طرح كلا الطرفين في بعض الأحيان موضوعات تبدو مهمة، كأن تكون مناقشة كتاب مثلًا أو قضية سياسية أو نفسية أو دينية، ويتنافس كلا الطرفين بإبداء رأيه في هذه القضية لا لشئ إلا ليظهر أنه على دراية وإلمام بشتى الكتب والروايات والأشعار والأغاني وغيرها، وبناءً على ذلك البوح المزيف والمخادع، والحوار اليومي المكثّف، واللقاءات الكثيرة السرية منها أو المعلنة تحت غطاء (ما)، والاهتمام المتواصل، تنمو المحبّة العميقة بين الطرفين أو من طرف واحد على الأقل (صاحب الرغبة المغرضة الخفيّة) تدفع به إلى بذل مجهود كبير جدًا واهتمام غريب جدًا في سبيل الحفاظ على (الصّداقة) المزعومة. ويأتي هذا المجهود عمدًا مع سبق الإصرار والترصد لوجود رغبة غير معلنة من أحد الأطراف للاستحواذ على الآخر، فالرجل هدفه الاستحواذ المؤقت ربما للتسلية ، أما المرأة بحكم اختلافها البيولوجي فتتولد لديها الرغبة في الاستحواذ الدائم.
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الصّداقة قد تؤدّي إلى الحبّ، لكنّ الحبّ قلّما يتحوّل إلى صداقة وذلك لأنّ متطلّبات الحبّ مختلفة عن متطلّبات الصّداقة. وهناك خيط رفيع يفصل بين الصّداقة والحبّ، على الصديقين أن يحافظا عليه كي لا يخسرا صداقة في سبيل حبّ بلا أملِ. ونلاحظ أنّ في علاقة الصداقة السرية، سواء استمرّت أم انفضحت، قد تتبدّل المشاعر بعد إشباع الفراغ العاطفي المؤقت أو عند البحث عن الذات في الآخر ثم ضياعها وتلاشيها. وقد يجتاح الحبّ هنا كعاصفة هوجاء ما تلبث أن تهدأ بعد مرور الوقت، ويتم الاكتشاف لاحقًا أنّ المرور بتلك المشاعر والعواطف والرغبات ليست سوى مرحلة مؤقّتة وقعوا فيها في (وهم الحبّ). فتشعر المرأة بالانبهار عندما يعطيها رجل يحمل ضعف سنين العمر وأضعاف الخبرة والموهبة أو الشهرة أو الذكاء الفرصة للقرب منه، تشعر بحميمية الأفكار معه وبالراحة فى مساحة أوسع للتفكير داخل عقله الواعي؛ خلطة مولينيكس لا تحمل معنى الصداقة بل الكثير من الانجذاب والانبهار والرغبة وتوهّم الحب واقتصار الشعور بالقيمة الذاتية من خلال الآخر فقط.
يتخذ بعض الرجال الصداقة بينه وبين المرأة كبداية لعلاقة عاطفية تختلف نهايتها حسب رغبة وظروف كل منهما وحسب التوافق الفعلي لا المزيف بينهما أيضاً، مثلًا قد يكون لديهما حاجة جنسية أو رغبة في التغيير، والبعض يتخذها كوسيلة للتسلية واللعب أتت اليهم على طبق من فضة يعتبرونها لذة لامشكلة منها ولا ضراوة طالما هما تحت الظل لا الشمس مبتعدين عن المشاكل. والكثير من الفتيات والنساء يقعن فى هذا الفخّ ويقعن فى ما هو أكثر منه للأسف الشديد كفريسة للرجل الصيّاد: يستمتع بلعبته الجديدة وعندما يملّ منها يرميها أو يستبدلها دون سابق إنذار..لا أعرف من هذا الرجل الذى يتلذذ بذلك أو تلك المرأة التي تستمتع بهذا!! وعندما تأتي النهاية الحتمية المريرة يتساءلون باستنكار ولا يجدون إجابة شافية تاركين أرواحهم وآمالهم معلقة بين السماء والأرض.
الصداقة حب بأبعاد وألوان مختلفة، يجب أن يعيش الإنسان مع أصدقاء يحملون من على صدره بعض أسراره، يشاركونه رقصات القلب وخفقاته اليومية، وتحمل أكتافهم بعض دموعه وصدورهم بعض من ملامح جسده الذى يحتضونه دائما، ولكن يجب أن تكون في إطار أخلاقي مقبول مجتمعياً. وضمن هذا التعريف الراقي للصداقة هل تنجح بين رجل وامرأة؟؟ وإن نجحت هل تنجح في إطار سريّ مشبوه؟؟ داعبت تلك الأسئلة عقلي وأنا استمع إلى أغنية ماجده الرومي " كن صديقي " وهى تحاول التخلص من مشاعرها اتجاهه وتضعها في قالب ضيق الأبعاد كالصداقة " لماذا تنسى حين تلقاني نصف الكلام ؟ " انه ارتباك عاشقة لن يصمد في حدود الصداقة.
وتذكرت أيضا المشاهد والقصص التي أراها واستمع إليها يومياً، وجلست أفكر فى مفهوم الصداقة بين الرجل والمرأة ووضعت أسئلة مشروعة تستطيع المرأة أن تقرر مصيرها إن استطاعت الإجابة عليها (وكذلك الرجل) :- هل يمكن أن تقولين ما يملأ عقلك من تفاهات محرجة أمامه؟؟ هل يمكن التخلي عن الأقنعة التي تلبسينها أمامه؟؟ هل تستطيعين خلع أقنعته واكتشاف حقيقته؟؟ هل تعرفين طبيعة علاقته الحقيقية بامرأته أم اعتمدتي على نقله هو فقط للصورة ؟؟ هل يمكنك الظهور أمامه بأي شكل لشعرك وملابسك؟؟ هل يمكنك أن تسبي وتلعني كما تشائين دون أن يحكم عليك؟؟ أهم شروط الصداقة بساطة الظهور المرتبك للفكر والشكل أمامه دون حرج، فهل يتقبل فوضاكِ الإنسانية دون حواجز؟؟ هل يمكن أن تجمعكما علاقة جسدية أم أنها فكرة مقززة ؟؟ لو هناك أدنى رغبة أو احتمال فحتمًا ستتحول تلك العلاقة إلى مغامرة عشقية مشبوهة عاجلًا أم آجلًا وستقع الكارثة حتمًا لكلا الطرفين أو لأحدهما على الأقل.
وجدت أن جميع إجابات الأسئلة السابقة لا يمكن ان تكون (بنعم) إلاّ بين الأزواج الأصدقاء أو الأصدقاء من نفس النوع، أما خرافة الصداقة بين الرجل والمرأة خصوصا السرية منها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشرعن الإجابة بنعم على تلك التساؤلات في مجتمعنا المهجّن: غربيّ المظهر شرقيّ الجوهر والملامح..الصداقة هي احتياج يومي ومعنوي بلا عاطفة جسدية ..
أنجح الزيجات هي زواج الأصدقاء، تشتعل علاقة صداقة وتتمدد المشاعر بالأيام ويأتي الزواج ليؤكد ألفة تلك العقول والقلوب معاً، ولا ينجح الزواج إلاّ باستمرار الصداقة. فلا تحتاج المرأة إلا للحديث عن أفكارها ومشاعرها ومخاوفها وأوجاعها وحاجاتها، فبدلًا أن تلجأ إلى أمها أو صديقتها أو تبحث عن بديل ليسمعها، فهي تبحث في زوجها عن صديق بين كل البشر ليحتويها. والرجل كذلك، يبحث في زوجته عن صديقة تحتوي أحداث يومه وتمجّد انتصاراته وتحذف أخطائه وتشعره بالوطن لا الغربة .. فاذا نجح كل منهما فى لعب دور الصديق داخل قلب الآخر سيموت الملل والخيانة والخرس الزوجي بالضربة القاضية.
هناك علاقات كثيرة تجمع بين الرجال والنساء ولكن ليس بينها الصداقة العميقة أبداً، من بينها التقاط الخلوي بعد يوم شاق لإعطاء العقل إجازة من التفكير والشعور برغبة فى الثرثرة والضحك أو الحزن من أعمق خلايا القلب مع صوت نسائي، ليس بالضرورة أن تكون (جميلة المظهر) فهو فقط يريد أن يفرّغ همه مع آخر يحمل المشاعر نفسها اتجاه الكون ويأنّ بالأوجاع نفسها أو يعاني كل منهما من ذات الداء؛؛ فقد تكون تشبهه في فراغة العين وعدم القناعة بالحصرية وأحادية العلاقة اذا كان مرضهما أخلاقي، ولكن ما أن يصل لزوجته يقطع الاتصال ويمحيكِ من حياته بمجرد أنه محى رقمك، وإن احتجته وهو معها يكون خارج الخدمة إلا بسلسلة أكاذيب لامتناهية إن نجحت ولم يفتضح أمركما، وإن اضطر للتواصل معك يكون من ظهر الزوجة وغالبًا في (الحمام) لأنه المكان الوحيد الذي قد يشعر به بالخصوصية.
ويقابل ذلك عند الزوجة الصديقة زيادة على حاجة الرجل من هذه العلاقة، تحقيق الشعور بالذات والقيمة والأهمية وزيادة الثقة بالنفس نتيجة لطلب الرجل إياها هاتفياً، وهو لا يتورع عن التظاهر والمخادعة والتمثيل؛ فهى تحكمه باهتمامها وهو يحكمها بدهائه.. علاقة مرهقة مليئة بالرعب والحذر والخوف والكذب فيقضي ذلك على جميع المتع وتُفقد الشخص احترامه لذاته وتدخله في اكتئاب مطبق ومرهق ممزوجًا بارتفاع الضغط المتواصل لدرجة من الممكن جدًا ان يدفع ثمنها حياته بأكملها..
أي علاقة بين رجل وامرأة يمكن أن تتحوّل إلى حب عشقي وعلاقة جسدية إذا صادفتها الظروف المناسبة لنمو الكيمياء وأكثر، وهناك الكثير من الظروف التي تخضع العلاقة لدرجة حرارة أقل من الحب فنطلق عليها مجازًا للاحتفاظ بها (صداقة)، لكن خلقنا الله كالمغناطيس نتجاذب ونتبادل مشاعر تجعلنا نعمر هذا الكوكب ثم نرحل عنه، الصداقة السرية بين الرجل والمرأة حب على نار هادئة وإن أراد القدر أن تعلو درجة حرارة العلاقة حتمًا سيشتعل القلب والجسد وتتحول إلى حب وسواسي نتائجه كارثية على الطرفين وعوائلهما.
العلاقة بين الرجل والمرأة بعموميتها ما زالت غير واضحة وغير معرّفة بشكل صحيح في ظل المجتمع الذكوري العربي، وفي ظل مجتمع انتقالي ملامح هويته ما زالت (مهجّنة) وتتذبذب بين الأصالة والحداثة. فما زالت النظرة للمرأة في المجتمع الانتقالي المهجّن مختزلة في جسدها فقط ومقزّمة لعقلها إلا من رحم ربي، وعندما تنحرف بوصلة العلاقات ومساراتها بالتأكيد سيكون (الطرف الأضعف) دائمًا وأبدًا ضحية فساد العلاقات البشرية، وهنا ليست المرأة هي الأضعف دائمًا بل غالباً، فقد يقع الرجل ضحية "صداقة" لم تكن في الأصل كذلك فيذهب عمره ومستقبله سدى، ليس من ناحية سمعته المهنية فحسب، بل من نواحٍ أخرى أصعب وأكثر ضررًا عليه كانهيار زواجه وأسرته..
المشكلة الأساسية الآن ليست في انفتاح التواصل بين الجنسين؛؛ بل هي في انعدام التربية والتوعية الكافية والتأهيل المناسب في مؤسسات التنشئة الاجتماعية كافة لخوض تجربة الانفتاح الثقافي و (الافتراضي)، في ظل انهيار الأخلاقيات والقيم بادّعاء التحضر والحرية وحقوق الانسان وغياب الحصانات الذاتية والحصانات العامة، أضف إلى ذلك الانفتاح الخطير على عالم مبهم من الضياع والبؤس أمام الداعشية المتوحشة أو الانفرادية والعزلة أمام طغيان علاقات عامة سوقية.