دول سقطت وأخرى تحتضر

دول سقطت وأخرى تحتضر

المغرب اليوم -

دول سقطت وأخرى تحتضر

توفيق بو عشرين

كل يوم تفقد الدولة جزءا من هيمنتها، قطعة من سلطتها، شيئا من تأثيرها، مساحة من سطوتها، على المجتمع وعلى الفرد.
قبضة الدولة ترتخي كل ساعة على الاقتصاد والثقافة والإعلام والأنترنت وحركة البشر والرساميل والأفكار والصور والرموز ونظام القيم واتجاهات الرأي وسلوكيات الاقتراع… وكل هذا لأن الشركة تتقدم والدولة تتراجع، لأن العولمة تزحف والوطنية تنحسر، لأن الحدود تسقط والمعابر تفتح، لأن الفرد يزداد قوة والجماعة تزداد ضعفا.
لو عاش كارل ماركس إلى اليوم لسقط مغشيا عليه وهو يرى أن الدولة التي تنبأ بنهايتها ودخولها إلى متحف التاريخ تتراجع، لكن لأسباب أخرى غير تلك التي نظر لها، أي أن الدولة تضعف ليس بسلاح الشيوعية بل بأسلحة الرأسمالية نفسها التي أطلقت للسوق العنان، وللشركة المبادرة، وللفرد الحرية، حتى أصبح الشعار هو: «دولة أقل وحرية أكبر».
الدول الذكية تعرف هذه الحقيقة، وتتجه إلى أن تتصالح مع شعبها وعصرها، وتحاول أن تملأ الفراغ، وأن تتقن استعمال أدوات السلطة التي مازالت بيدها، والتي لا يستطيع المجتمع أن يدفع بها إلى القطاع الخاص (مثل الأمن والجيش والقضاء والدبلوماسية وسلطة الضبط la régulation، ومنها وضع دفاتر التحملات للشركات التي تدبر المرافق العامة، ومراقبة جودة الخدمات والمنتوجات، وحماية الأطراف الضعيفة في المجتمع، وتنظيم حركة السير على طريق اكتساب الثروة والجاه والتأثير)… أما الدول المتخلفة فتعاند الحقائق، وتستعمل ما بقي عندها من قوة تقليدية لفرض سطوتها على المجتمعات والأفراد، فتنتج مزيدا من سخط الناس، ومزيدا من قمع الأفراد، ومزيدا من التخلف والسلطوية. كل يوم تحفر الدول العربية والمغاربية والإفريقية خنادق شاسعة بينها وبين شعوبها عن طريق خلط السلطة بالثروة، والسياسة بالأمن، والانتخابات بالتزوير، والدعاية بالإعلام (انظروا كم دولة صارت فاشلة في العالم العربي وإفريقيا: الصومال والعراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان وجنوب السودان ومالي، وفي الطريق إلى إعلان الفشل هناك الجزائر ومصر وموريتانيا إذا لم تصلح هذه الدول من أحوالها). ليست فقط الأنظمة السلطوية هي التي تنهار في هذه البلدان، بل الدولة كلها تبددت، وأصبحت المليشيات والقبائل والعشائر والتنظيمات الإرهابية من يحكم الجغرافيا ومعها الاقتصاد الأسود، من تهريب البضائع، إلى غسل الأموال، إلى الاتجار في البشر، إلى زراعة المخدرات، إلى الاستثمار في عائدات القرصنة وخطف الأجانب وتلقي الفدية، والاتجار في السلاح.
لم تعد الدول المتخلفة في إفريقيا والعالم العربي أمام خيارين تقليديين، الدمقرطة أو السلطوية، كما كان الأمر في السابق حيث كل نموذج يجد له حليفا في الشرق أو الغرب، أصبحت الدولة اليوم أمام خيارين مختلفين تماما، إما الدمقرطة أو الانهيار، إما تقوية شرعيتها السياسية أو الزوال، إما توسيع المشاركة وإقامة حد أدنى من المؤسسات، أو انفراط عقد الاجتماع البشري، وحلول الفوضى غير الخلاقة، وحرب الجميع ضد الجميع.
 منذ ربع قرن لاح نموذج فشل الدولة في الصومال ولم ينتبه إليه إلا القليلون، حيث اعتبر هذا البلد، العضو في جامعة الدول العربية، مجرد استثناء. الآن نحن أمام انهيار خمسة بلدان عربية وخمسة أخرى في الطريق للوصول إلى محطة الدولة الفاشلة (تصل الدولة إلى وضعية الفشل الكلي أو الجزئي عندما تفقد فيها السلطة حق احتكار استعمال أدوات العنف المشروع، ومراقبة الحدود، وتقديم حد أدنى من الخدمات للمواطنين، والعجز عن الاضطلاع بالمسؤوليات الدولية الملقاة على عاتقها). 
قبل أسابيع كان تنظيم داعش ليبيا يريد أن يقضم قطعة من الأرض التونسية في بنغردان لإقامة ولاية جديدة للبغدادي في بلاد الزيتون بواسطة استعمال السلاح، وتجنيد الخلايا السلفية الجهادية التي انتعشت مع ارتخاء مفاصل الدولة بعد ثورة الياسمين. كان هذا اختبارا لقوة الدولة التونسية، ومدى قدرتها على مراقبة حدودها، واحتكار استعمال السلاح فوق أرضها، لكن الاختبار الأقوى كان للشعب التونسي ولسكان بنغردان، فيما إذا كانوا مازالوا متشبثين بالدولة التونسية إلى اليوم، أم إنهم يئسوا منها بفعل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها مشاكل إعادة ترتيب أوضاع البيت الداخلي للنظام التونسي. هذا النموذج في الاختبارات ستتعرض له دول وشعوب أخرى مغاربية وعربية وشرق-أوسطية في الأشهر والسنوات المقبلة، سواء على يد داعش أو القاعدة أو غيرهما من التنظيمات المسلحة التي باتت جاهزة لأن تحل محل الدولة الفاشلة، وهذه التنظيمات تتغذى على ضعف الشرعية السياسية في الدولة العربية، وندرة شرعية الإنجاز فيها، ووفرة الأزمات داخلها، وقنوط ويئس الناس من الأمل في الغد، والجميع يردد شعار: «الطبيعة تخشى الفراغ».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دول سقطت وأخرى تحتضر دول سقطت وأخرى تحتضر



GMT 05:48 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

لا تخلط بين رأيك والحقائق!

GMT 06:18 2016 الجمعة ,15 تموز / يوليو

للصبر حدود، كما للحياء خدود

GMT 07:02 2016 الإثنين ,27 حزيران / يونيو

بين الاقتصاد والسياسة

GMT 08:29 2016 السبت ,26 آذار/ مارس

مليون نعم للخصخصة

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 17:01 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

مشاريع "زايد الخيرية" في كينيا تبلغ 92 مليون درهم

GMT 09:17 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

اكتساح كبير لمرتضى منصور في انتخابات نادي الزمالك

GMT 10:01 2016 الإثنين ,24 تشرين الأول / أكتوبر

شاليه متنقل لممارسة التزلّج والمشي على الجليد

GMT 05:31 2017 الأربعاء ,11 تشرين الأول / أكتوبر

ليلى شندول تنفي خطوبتها على فنان معروف في السر
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya