توفيق بو عشرين
يعرف العرب الاستبداد، لأنهم في كنفه منذ عقود، ويعرف العرب الديمقراطية في طبعتها الأخيرة، بمعايشتهم الأنظمة الديمقراطية في أوروبا أو أميركا، بالمتابعة الإعلامية وبالهجرة الى هذه البلدان، طلباً للحرية أو للرزق. لكن العرب لا يعرفون، في الغالب الأعمّ، نظاماً آخر مهماً جداً، هو نظام المرحلة الانتقالية، أو قُل الجسر الرابط بين آخر درج في الاستبداد، وأول عتبة نادي الدول الديمقراطية، وهو ما يسمّى في أدبيات علم السياسة "الانتقال الديمقراطي"، أي تلك المرحلة الرمادية التي توضع فيها القواعد العامة، وتتأسّس فيها التوافقيات الواسعة حول إدارة السلطة والثروة، بطرق سلمية وديمقراطية حضارية تضمن الحكم للأغلبية، وللمعارضة فرصة أن تصير أغلبية. وتُدار المرحلة الانتقالية بالتوافق والتراضي والمساومات والمفاوضات والتنازلات المشتركة، قبل اللجوء إلى قانون الأغلبية والأقلية. إنها مرحلة تأهيلية، قبل الدخول إلى الامتحان الديمقراطي الصعب. من هذا الجهل بهذه المرحلة الانتقالية وضروراتها وطبيعتها، تنبع المشكلات التي تعترض، اليوم، الإسلاميين في الحكم في مصر وتونس والمغرب، وقبل ذلك في إيران والسودان وأفغانستان والجزائر. تصرّف الإسلاميون، ويتصرّفون، في هذه الدول، وكأنهم في السويد أو الدانمارك. ليلة إعلان نتائج الانتخابات، تتحوّل السلطة إلى يد الفائز ويرضى الخاسر بالنتيجة، ويصفّق الناس للعبة، وهذا لا يقع بين ليلة وضحاها، فالديمقراطية مسار معقّد، وفيه صعود ونزول، قبل أن يستقر في الوعي الجماعي للمواطنين. نجح الإسلاميون في أن يصيروا جزءاً من المشكل وجزءاً من الحل في الوقت نفسه في العالم العربي، نظراً للنفوذ الكبير الذي صار لهم في مجتمعاتهم. لهذا، عندما يخرج صوت "عاقل" من بينهم، على الجميع أن يستمعوا إليه، وأن يُنصتوا. أحد هذه الأصوات عبد الفتاح مورو، نائب رئيس حركة النهضة في تونس، والذي حضر مؤتمر حركة التوحيد والإصلاح في الرباط، الأسبوع الماضي، وأجرت صحيفة "أخبار اليوم" المغربية معه حواراً مهمّاً، قدّم فيه دروساً نفيسة للإسلاميين بشأن المراحل الانتقالية، وفن إدارة الحكم فيها. ـ الأول: "صندوق الاقتراع يمكن أن يوصل الإسلاميين إلى بيت الحكم، لكنه غير كافٍ ليبقى الإسلاميون أو غيرهم في الحكم. ما يبقيك في الحكم، بعد أغلبية الصندوق، فهمُكَ مفاصل الحكم، وسعيُكَ إلى البحث عن التوافق مع الأطراف الأخرى، وأولها الإدارة التي تنفّذ البرامج، ثم رجال ونساء الأعمال الذين يمتلكون سلطة القرار المالي، ثم نخبة الفكر والثقافة والفن والصحافة والجامعة. هؤلاء الذين يمتدّ تأثيرهم إلى المجتمع. من دون التوافق والتواصل مع هذه الفئات كلها، سيظل الإسلاميون معزولين عن المجتمع، ولو فازوا بكل أصوات صناديق الاقتراع". ـ الثاني: "هناك فرق كبير بين النظري والتطبيقي. جلّ الإسلاميين كانوا هائمين بين السحاب والكتاب، إما نظرية قرأوها في كتابٍ، وسعوا إلى تحقيقها، أو حلم رأوه في السحاب، فتشبّثوا به من دون تمحيص ولا مراجعة. السياسة والحكم هما فن إدارة الواقع، والتعامل مع مشكلاته وتعقيداته، والتدرّج في الإصلاح، ونشر الوعي والفهم. فالتغيير يتم بالناس ومعهم، وليس من فوق". ـ الثالث: "رفعنا شعار الإسلام هو الحل، لكن هذا ليس حلاً. هذا شعار لا يقدّم ولا يؤخّر. في المراحل الانتقالية الصعبة، لا يجب تقسيم المجتمع وقواه الحية على أسس إيديولوجية (إسلامي، علماني). إذا كان لا بدّ من التقسيم، فعلى أسسٍ سياسية. مثلاً، أن نقول إن هذا تقدمي له روح النظر إلى المستقبل، ويؤمن بالتطور والتحديث، وهذا الصنف موجود في كل التيارات. والآخر رجعي، أو محافظ يعيش في ماضٍ يساري، أو قومي أو إسلامي، ينظر إلى الخلف، لا إلى المستقبل". ـ الرابع: "النص الديني واحد، لكن قراءاته متعددة، والنص يُفهم في ضوء الواقع المعيش، لا في ضوء فهم السلف القديم. لا رجوع إلى الوراء، والتاريخ لا يُعاد، والحركة الإسلامية غير مقدسة، هي نتاجٌ فكريّ يتطوّر ويتجاوز. لهذا، على الإسلاميين المتنورين أن يواجهوا التطرف الديني، وألا يسكتوا عليه خجلاً أو بمقتضى الأخوّة الإسلامية مع المتطرفين". كلام عبد الفتاح مورو هذا ليس للاستهلاك. فقد برهنت "النهضة" في تونس، بمناسبة تنازلها عن الحكم، وهي صاحبة الأغلبية في البرلمان، وبمناسبة وضع دستور متقدم بالتوافق مع الأقليتين، اليسارية والليبيرالية، أنها حركة تتطور، وحالة فكرية وسياسية متقدمة، ليس فقط على الإسلاميين، بل كذلك على الليبراليين واليساريين الذين تحالف كثيرون منهم مع الاستبداد، وما زالوا يعيشون في حرجه، ويأكلون من يده، ويخونون مبادئهم كل ساعة وحين.