قضاة من الوزن الثقيل

قضاة من الوزن الثقيل

المغرب اليوم -

قضاة من الوزن الثقيل

بقلم - توفيق بو عشرين

أسدل الستار على محاكمة طويلة ومعقدة اسمها محاكمة أكديم إيزيك. فمع الخيوط الأولى لفجر يوم الأربعاء الماضي، نطقت الهيئة بالحكم في حق 23 متهما، فضل جلهم مقاطعة أطوار المحاكمة أمام المحكمة المدنية، بعدما سبق أن مثلوا أمام محكمة عسكرية، قبل أن يتغير قانون هذه الأخيرة ليمنع مثول المدني، كيفما كانت تهمته، أمام قضاء عسكري استثنائي لا ضمانات أمامه للمحاكمة العادلة.

من خلال تتبع الجلسات الماراثونية الواحدة والثلاثين التي مر منها هذا الملف، الذي ظل مفتوحا منذ سنة 2010، عندما تجمع آلاف الصحراويين في مخيم خارج مدينة العيون للاحتجاج على أوضاع اجتماعية أو سياسات ريعية، أو طمعا في “كريمات” جرى التلويح بها في خضم صراع سياسي وانتخابي بين حزب البام، ممثلا في الوالي جلموس، وحزب الاستقلال، ممثلا في رئيس المجلس البلدي حمدي ولد الرشيد، ما فتح الباب مشرعا لانفصاليي الداخل لتحويل المخيم إلى بؤرة توتر وتجمع مسلح لخلق وضع جديد في العيون، ودفع المنتظم الدولي إلى التدخل من أجل حماية سكان المنطقة… النتيجة كانت أن السلطات المغربية تحملت كلفة غالية (استشهاد 11 عنصر أمن)، وذلك لاقتحام المخيم دون سلاح، حرصا على أرواح من كانوا في المخيم من صحراويين، وبقية القصة معروفة بتفاصيل أخطائها الكارثية؛ أولها إعطاء ملف أمني وعسكري واستخباراتي وسياسي ودبلوماسي لشخص لا يحمل أي صفة نظامية، ولا أي اختصاص قانوني لإدارته، والنتيجة ما يعرفه الجميع.

أحكام الهيئة، التي ترأسها القاضي في محكمة الجنايات بالرباط يوسف العلقاوي، تراوحت بين المؤبد والسجن 30 سنة و25 سنة و6 سنوات و4 سنوات وسنتين… وهنا لا بد من إبداء بعض الملاحظات السريعة:

أولا: تجنبت المحكمة النطق بأحكام الإعدام رغم أن المتهمين توبعوا بجرائم تكوين عصابة إجرامية والقتل، وكلها جرائم مصحوبة بظروف التشديد، ممثلة في التمثيل والتنكيل بالجثث (أحدهم تبول على جثة عسكري بعد قتله)، ومع ذلك تجنبت هيئة الحكم النطق بالإعدام، وهذا أمر إيجابي، ويقرب ثقافة المحاكم القانونية من مطلب إلغاء عقوبة الإعدام.

ثانيا: اتجه حكم المحكمة إلى تخفيف بعض العقوبات بعد إعادة تكييف الجرائم لانعدام الأدلة، أو لفائدة الشك، حيث نزلت عقوبة بعض المتهمين من السجن 25 سنة إلى أربع سنوات، وغادر هؤلاء السجن يوم أمس إلى منازلهم. هذا معناه أن القاضي ورفاقه في الهيئة لم يتأثروا بأحكام المحكمة العسكرية، ولا بحساسية الموضوع، وما أحاط به من «دراما وطنية»، وهذه المهنية في التعامل مع ملف حارق اتضحت في كفاءة القاضي يوسف العلقاوي، الذي أدار الجلسات الـ31 برحابة صدر، وتجاوب مع مطالب دفاع المتهمين بهدوء ورصانة.

ثالثا: حكمت المحكمة بعدم قبول المطالب المدنية التي تقدمت بها عائلات الضحايا، وترافع من أجلها نقباء ومحامون معروفون، وكان الغرض منها دفع المحكمة إلى الحكم بتعويضات لعائلات الضحايا. هذه التعويضات التي لن يستطيع المدانون الوفاء بها، فتتحول تلقائيا إلى إكراه بدني يضيف سنوات من السجن إلى المدانين. المحكمة، ورغم الطابع الإنساني المحزن للعائلات التي فقدت أبناءها في المخيم، فإنها لم تقبل ذلك لأسباب قانونية ومسطرية، منها التقادم، ومنها عدم أداء الرسوم، وأهمها أن المطالب بالحق المدني لم ينتصب في المرحلة الابتدائية فسقط حقه في الاستئناف. وهنا يظهر التطبيق السليم للقانون بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى، ولو كانت عادلة وإنسانية (مرة كان أحد كبار قضاة المحكمة الفدرالية الأمريكية يهم بدخول المحكمة، فصاحت فيه سيدة معنية بالقضية التي سيبت فيها فقالت له: «احكم بالعدل يا سيدي»، فلما دخل القاضي إلى المحكمة، وقبل أن يبت في القضية المعروضة عليه، توجه إلى السيدة التي خاطبته في باب المحكمة وقال لها بأدب وحكمة: «هنا يا سيدتي لا نحكم بالعدل بل نحكم بالقانون»).

رابعا: ترافع جل محاميي المتهمين، الذين وكلتهم المحكمة للدفاع عن الماثلين أمام القضاء في إطار المساعدة القضائية، بكل حرية وشجاعة ومهنية، وقد أحرجوا أحيانا ممثل النيابة العامة، وقد سألت المحامي سعد السهلي، يوم أمس، عن الظروف التي تمت فيها المحاكمة، وهل تعرض هو أو زميله لضغوط قبل المحاكمة أو أثناءها، فقال: «لم نتعرض لأي ضغوط من قبل أي جهة، وقمنا بواجبنا كما يمليه علينا ضميرنا المهني، ولم نكن ننظر سوى في أوراق الملف وطبيعة الحجج المقدمة ضد موكلينا، ولم نكن نتطلع إلى قناعاتهم التي نختلف معها، ولا إلى مواقفهم السياسية التي لا نشاطرهم إياها، وقد أخذت المحكمة ببعض مطالبنا، وفي مقدمتها عدم قبول المطالب المدنية، كما ضمنت المحكمة للدفاع حقوقه، وللجلسة علنيتها، وللمحاكمة شروطها القانونية».

خامسا: اجتهدت النيابة العامة في توفير أدلة جديدة لإثبات المنسوب إلى المتهمين، عكس ما وقع أمام المحكمة العسكرية، التي لم توفر مثل هذه الأدلة، ووقف المراقبون على أشرطة فيديو وتسجيلات صوتية مستقاة من التنصت على مكالمات المتهمين، علاوة على إحضار شهود جدد، وهذا معناه أن النيابة العامة لم تتكاسل، ولم تعول على الطابع السياسي للملف، بل ترافعت كطرف أمام محكمة قد تأخذ بكلامها وأدلتها، وهذا عكس ما كان يجري في جل المحاكمات السياسية، حيث تعول النيابة العامة على «تفهم القاضي».

من مجمل هذه الملاحظات يمكن القول باطمئنان إن القضاء نجح في هذا الاختبار الصعب لملف يراقبه الداخل والخارج، وهذه مناسبة لكي تجري الدولة حسابا دقيقا بشأن ما تربحه من قضاء مستقل ونزيه ومهني ينظر في الملفات وليس في أصحابها، وفي القانون وليس في السياسة، وفي المساطر وليس في رغبات الانتقام، وما تخسره الدولة ذاتها، في المقابل، بوجود قضاء هجين تابع وقضاة من وزن الريشة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قضاة من الوزن الثقيل قضاة من الوزن الثقيل



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 18:25 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

مذيعة "سي إن إن برازيل" تتعرض لسطو مسلح على الهواء
المغرب اليوم - مذيعة

GMT 00:07 2014 الأحد ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

سوسيس مشوي

GMT 11:04 2017 الجمعة ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

مطعم “ذا روك” في تنزانيا لعشاق الغرابة والأكل البحري

GMT 11:57 2019 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

أوناجم يجتاز لحظات عصيبة مع الزمالك المصري

GMT 21:28 2019 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تدرارين يستقيل من حسنية أغاديربعد إقالة غاموندي

GMT 10:17 2019 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

جد يرمي حفيده الصغير بفرن ساخن في روسيا

GMT 04:30 2019 السبت ,26 كانون الثاني / يناير

باتاكي ترتدي بكيني أحمر متوهج وتتباهى بجسدها

GMT 07:10 2019 الخميس ,17 كانون الثاني / يناير

تعرف على أفضل وجهات ومنتجعات التزلج في أوروبا

GMT 21:11 2018 الثلاثاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

أحمد العوضي يتحدث عن حياته الخاصة قبل التمثيل

GMT 15:38 2018 الثلاثاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

صحافي مغربي يؤكّد أن سعد لمجرّد سيتحمل مسؤولية ماوقع له

GMT 10:34 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

ضبط ثعابين وسحالي نادرة في معبر باب سبتة

GMT 06:27 2018 الإثنين ,17 أيلول / سبتمبر

العاصفة "فلورنس" تحصد 17 قتيلا في أميركا
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya