بقلم - توفيق بو عشرين
محمد عبد النبوي غاضب جدا من التدخل في اختصاصاته، ولعب وزارة العدل في حديقته، لذلك، أصدر أول بيان «حربي» له يعلن فيه انتفاضته ضد من يتدخلون في عمل النيابة العامة، والذين يصدرون تعليمات شفوية وكتابية للوكلاء العامين للملك، دون المرور بمكتبه بحي الرياض، لهذا، أصدر «المغرق الأول في المملكة» مذكرة يحذر فيها من مغبة اقتراب جهات، لم يسمِّها، من النيابة العامة التابعة له، لكن الجميع فهم الرسالة، وأن الجهات المقصودة بها هي وزارة العدل، التي مازالت لم تعتد بعد وضعية «الطلاق البائن» الذي وقعه وزير العدل السابق، مصطفى الرميد، مع النيابة العامة، والذي ورثه محمد أوجار، وكان عليه أن يفطم وزارته عن التدخل في شؤون النيابة العامة، مهما كان رأيه أو تقديره.
عبد النبوي أقفل باب النيابة العامة في وجه الحكومة نهائيا، وطلب من وكلاء الملك جميعهم عدم التعامل مع وزارة العدل، أو مع أي جهة أخرى تطلب معلومات عن الملفات المعروضة على القضاء، أو المشاركة في ندوات، أو إصدار تعليمات للوكلاء العامين، دون المرور من الإدارة المركزية لرئاسة النيابة العامة.
ما هو سبب هذا الاصطدام بين النيابة العامة ووزارة العدل، أشهرا قليلة بعد خروج القضاء الواقف من معطف الجهاز التنفيذي؟ هناك، أولا، حداثة التجربة، فنحن في بداية تجربة فريدة وخاصة، ولكل بداية عثرات. ثانيا، الوزارة لم تهضم بعد خروج ذراع النيابة العامة من تحت يدها، وهي لا تعرف، إلى الآن، كيف تنفذ السياسة الجنائية ويدها مغلولة والضرب فوق رأسها. ثالثا، كان وزير العدل الجديد، محمد أوجار، يعتقد أن المرحلة الانتقالية ستدوم حوالي ثلاث إلى أربع سنوات، وسبق وقال: “إننا لسنا في طلاق بائن مع النيابة العامة”، وها هو عبد النبوي يقول العكس، ويعلن أمام الرأي العام أن الطلاق هو الوضع الطبيعي للحفاظ على «استقلالية القضاء» عن السلطة التنفيذية. ثم هناك، رابعا، غموض النصوص القانونية وتضاربها أحيانا، والاختلاف في تأويلها بين وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، حيث يفسر القضاة القانون بطريقة وتفسره الحكومة بطريقة أخرى.
كاتب هذه السطور كان رأيه ألا تخرج النيابة العامة من وزارة العدل، مرة واحدة، حتى نهيئ الجو القانوني والثقافي والمؤسساتي لهذا الخروج، ضمن النماذج المتعارف عليها عالميا في علاقة النيابة العامة بالحكومة، وحتى نضمن استقلالية القضاء، لكن، مع الحفاظ على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعدم تجريد الحكومة المسؤولة أمام الناخب من صلاحية تطبيق السياسة الجنائية المسؤولة عنها أمام البرلمان وأمام الشعب، لكن، وحيث إن الدولة اختارت خيار الطلاق البائن والسريع، وسايرها في ذلك وزير العدل السابق وحكومته دون أن يكونا مقتنعين بالأمر، فالواجب احترام القانون أو تغييره، لا القفز عليه وكأننا في سيرك عمار.
الاصطدام الذي حصل الآن بين وزارة العدل والنيابة العامة، مرده إلى عدم حل إشكالية من يضع السياسة الجنائية في المغرب، ومن ينفذها، فوزير العدل، ممثل الحكومة، غير موجود في المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وفي الوقت ذاته لا توجد أي علاقة مؤسسية أو قناة رسمية تسمح للحكومة بتبليغ توجهاتها للنيابة العامة.
كنت دائما أستغرب حضور الوكيل العام للملك والوكلاء في كل المدن إلى الولاية أو العمالة، في الاحتفالات الرسمية أو في المناسبات العامة، بدعوة من السلطة التنفيذية، وأسأل نفسي: ألا يخشى هؤلاء القضاة على استقلاليتهم وهيبتهم وسمعتهم عندما يختلطون بالوالي والعامل والقائد والباشا وأعيان المدينة وتجارها وسماسرتها؟ فسلطة هؤلاء «قضاة» لا تقل عن سلطة الوالي والعامل والوزير والكوميسير… فلماذا يقفون عند الأبواب؟ وكيف سينظر الناس إليهم وإلى دورهم وهم يقفون عند عتبات رجال الإدارة الترابية؟
حادثة السير هذه بين النيابة العامة ووزارة العدل مناسبة لإعادة فحص مخرجات مشروع إصلاح العدالة، الذي أعطى استقلالية كبيرة للقضاة، ومنحهم حرية واسعة في إدارة شؤونهم كما يريدون، لكن، ماذا عن استقلالية الأحكام؟ ماذا عن احترام السلطة ضمير القاضي وسلطة القاضي وجبة القاضي؟