بقلم : توفيق بو عشرين
ليلى مغربية فرنسية تبيع ملابس «ماركة» أمريكية في متجر بلندن؟ ولدت في ليون قبل 29 سنة من أب ينحدر من تيفلت وأم من قلعة مكونة. من الكتاب الفرنسي الذي أحمله في يدي خمنت أني مغربي أو تونسي أو جزائري، فبادرتني بالسؤال: «هل أنت من المغرب»؟ قلت: «نعم. كيف عرفت؟»، فأجابت: «من كتاب Luc ferry الذي تحمل بين يديك. من يكون هذا الكاتب؟»، قلت: «هو فيلسوف فرنسي يخفق قلبه إلى اليمين، لكن ماري لوبان لا تعجبه، واليسار يوقظ فيه السخرية أكثر من أي شيء آخر»، فسألت: «هل مازال على قيد الحياة؟»، قلتُ: «نعم للأسف، أو لحسن الحظ حسب زاوية النظر».
سألتها: «كيف جئت للاستقرار هنا؟»، قالت: «أنا مغربية فرنسية ولدت في بلاد هولاند، وجئت للعمل في لندن. كانت في البداية مجرد مغامرة، لكنها الآن أصبحت اختيارا. أعجبتني لندن رغم أسعارها التي تحرق الجيوب، لكن جودة العيش والانفتاح والتعددية الموجودة هنا تغري فتاة مثلي بالابتعاد عن فرنسا التي أصبحت تتنفس الشكوى من المهاجرين وتتأفف من كل شيء».
سألتني عن عملي، فأخبرتها بأني صحافي، فبادرتني بالسؤال: «وهل هناك صحافة في المغرب؟ أقصد هل يمكن ممارسة هذه المهنة في بلاد غير ديمقراطية؟»، تعجبت من دقة وعمق سؤالها رغم أنه لا يظهر عليها اهتمام كبير بالسياسة. قلت: «نعم، ممارسة الصحافة، كما في باريس أو لندن أو واشنطن، مستحيلة في المغرب، لكننا نحاول أن نقترف مهنة شبيهة بالصحافة في بلاد محاطة بالأسلاك الشائكة. نحن نتعلم ممارسة هذه المهنة، ونقبل بهامش مخاطرة كبير، والسلطة تتعلم أن تتعايش معنا، وإذا غضبت تضرب بقوة، فمنا من ينحني للعاصفة إلى أن تمر، ومنا من يدخل تحت جناح السلطة خوفا وطمعا، ومنا من يكفر بالحرفة فيتحول إلى معارض في الخارج لا يرى أي تقدم في البلاد، وتبقى أفضل جريدة في المغرب هي التي لا تصدر، وأفضل إذاعة هي التي لم تولد بعد، وأفضل تلفزة هي التي يصنعها المواطن في اليوتيوب، وعلى العموم، بارك الله في مارك زوكلبيرغ مؤسس الفايسبوك، فقد أعطى جريدة لمن لا جريدة له، ومكبر صوت للذي لا صوت له، ومنبرا للتعبير لمن لا منبر له».
أخبرتني ليلى بأنها مخطوبة وستتزوج قريبا، لكنها لا تستطيع العودة إلى المغرب، فالبلاد، في نظرها، لا تتقدم، والإصلاحات فيها مثل الشمس في شتاء لندن، تظهر يوما وتغيب شهرا، حتى إنها أحيانا تتحرج في الإفصاح عن جنسيتها. «أحيانا لا أقول أنا مغربية، أختبئ وراء جنسيتي الفرنسية رغم أني لا أشعر بأنني فرنسية تماما»، تقول ليلى بأسف ظاهر.. تعجبت من كلامها، لكني في هذا الصباح الجميل وأنا ذاهب إلى حديقة ‘‘هايد بارك’’ لأتمشى وأستمتع بالخضرة، لا أريد أن أتحول إلى واعظ في الوطنية، وأن أعطي هذه الفتاة دروسا في حب الوطن والدولة المغربية. تركت هذه المهمة لخدام الدولة الذين ابتلعوا آلاف الهكتارات من أرض الوطن، ثم نصبوا أنفسهم رهبانا يبشرون بالمغرب الجديد والمفهوم الجديد للسلطة، وأزعم، والله أعلم، أن خجل هذه المواطنة المغربية من الانتماء إلى وطنها إحدى نتائج السياسة العقارية والريعية لخدام الدولة… هذا مجرد زعم.
سألتني ليلى: «ألا يعطي المغرب صورة دعائية جميلة عن نفسه للخارج لا تطابق الواقع الحقيقي؟ أنا أزور المغرب كل سنة، وأرى أن الناس تشتكي الإدارة والقضاء والفقر وقلة الصحة، وعدم الشعور بالحرية الكاملة في التعبير، ثم أرجع إلى أوروبا فأرى أن جل من يعرف المغرب متفائل بمستقبله، ويقارنه بسوريا وتونس واليمن والعراق، ويقول لي: ‘‘احمدوا الله أن الدم لا يجري وديانا في المغرب، وأنا لا أعرف هل الحرية خطر على المغاربة أم إن الاستبداد هو الخطر، لا أعرف صراحة».
أحسست بأنني في ورطة، ولا بد أن أجيب هذه المواطنة المفتوحة شهيتها للحديث في السياسة، فيما أنا هنا لنسيان هموم السياسة والصحافة، وحضور دورة تدريبية بعيدا عن «خزعبلات السياسة المغربية»، لكني مع ذلك أجبتها: «المغرب يتغير نعم، لكنه لا يتقدم إلى الأمام بسرعة معقولة، وكل شيء فيه بين قوسين، وإذا كانت الأرقام لا تكذب، فهي تخبرنا بأن معدل البطالة فوق العشرة في المائة، وهذا الرقم يقفز إلى 20٪ عند الشباب المتعلم، وأن معدل الفقر مرتفع، وأن في البلاد 8 ملايين لا يعرفون للقراءة والكتابة طريقا، وأن في البلاد أحزابا حقيقية وأخرى كارتونية، وأن النخب جلها مهلهل و… مؤشرات كثيرة تقول إن المغرب بلاد من العالم الثالث، وإن الجهود الإصلاحية التي يقوم بها الملك والحكومة، من جهة، هي محدودة أمام هول الخصاص المتراكم بفعل عقود من الإهمال، ومن جهة أخرى هذه الإصلاحات تتم خارج مؤسسات قوية، وسياسات عمومية دائمة، واختيارات ديمقراطية لا رجعة فيها. إن الأمر يشبه شخصا يقوم بإصلاحات يومية في بيته، لكن، بدون خطة من وضع مهندس معماري، ودون مخطط تهيئة عمراني، والأكثر أهمية، دون إيقاف أشخاص يخربون البيت من الداخل كل يوم أيضا… الحرية نعمة لا يجب التشكيك فيها، والاستبداد نقمة لا يجب التساهل معها، والدليل هو البلاد التي اخترت أن تعيشي فيها».
سألتني: «هل رأيت ما وقع في تركيا؟ وهل رأيت الشعب التركي ينزل إلى الشارع لحماية النظام الديمقراطي في بلاده مِن مخاطر الانقلاب العسكري؟ هل تعتقد -تسأل مرة أخرى- أن المغاربة يستطيعون النزول إلى الشارع بهذه الصورة إذا تعرض نظامهم للخطر؟».
يا الهي، ما هذا الامتحان «على الصباح»؟ قلت لبائعة الملابس: «أنا لم أفكر في هذا السؤال من قبل»، فردت متهكمة: «لكني فكرت، فهل أجيبك؟»، قلت: «نعم، لكن بعد أن تحضري لي قميصا لهذا الصيف على مقاسي».