قاض شجاع

قاض شجاع

المغرب اليوم -

قاض شجاع

بقلم : توفيق بو عشرين

غضب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بشدة من حكم القاضي الفدرالي، جيمس روبرت، الذي قضى بوقف تنفيذ الأمر الرئاسي الذي صدر عن البيت الأبيض، والذي يمنع مواطني سبع دول إسلامية من دخول الأراضي الأمريكية، عملا بالقرار الرئاسي الصادر في 27 يناير 2017 تحت اسم: «حماية الأمة من دخول الإرهابيين الأجانب إلى الولايات المتحدة». ولأن الرعونة من طبيعة ترامب، فقد لجأ، مباشرة بعد سماع حكم القاضي الذي علق العمل بالقرار الرئاسي إلى حين البت في جوهر القضية، إلى تويتر وكتب: «القاضي المزعوم الذي أصدر هذا الحكم يثير السخرية، وهذا القاضي يعرض بلادنا للخطر، إذا حدث شيء فلوموه هو والنظام القضائي في البلاد، إنه أمر سيئ». هذه أول مرة يهاجم فيها رئيس أمريكي قاضيا فدراليا ويصفه بالمزعوم، ويحمله مسؤولية تعرض البلد للخطر، ولهذا يحذر العقلاء في أمريكا من أن ترامب لا يهدد فقط صورة البلاد في الخارج، بل يهدد النظام الأمريكي الذي استقر العمل به منذ أكثر من قرنين، حيث تحترم السلطات بعضها بعضا… على أي أساس بنى القاضي الفدرالي حكمه بالوقف الفوري لقرار الرئيس منع مواطني إيران وسوريا والعراق والصومال واليمن والسودان وليبيا من دخول الأراضي الأمريكية، حتى وإن كانت بحوزتهم تأشيرات الدخول؟

عندما نطلع على نص الحكم الاستعجالي بوقف تنفيذ القرار الرئاسي إلى غاية النظر في جوهر الدعوى التي رفعتها ولايتان أمريكيتان، هما واشنطن ومينيسوتا، نجد القاضي قد ارتكز على القاعدة القانونية التي توجب وقف تنفيذ القرارات الحكومية إلى غاية البت في جوهر الدعوى، لاحتمال تعرض المعنيين بهذه القرارات لأضرار غير قابلة للجبر، أو تعرض توازن المصالح للخطر، أو احتمال تضرر المصلحة العامة. وحيث إن ترك الأوامر الرئاسية المطعون فيها سارية إلى غاية البت في الدعوى من شأنه أن يلحق ضررا بالطلاب الأجانب الملتحقين بالجامعات الأمريكية، ومن شأنه أن يشتت شمل الأسر الأمريكية، حيث سيظل جزء منها في البلاد والجزء الآخر خارجها، كما من شأن قرارات الرئيس الأمريكي ترامب أن تضر بالعائدات الضريبية في الولايات ومداخيل الجامعات ومراكز البحث، ومن شأنها أن تمس بحرية التنقل بالنسبة إلى أشخاص لم توجه إليهم أي تهم محددة، ومن شأنها أن تضر بسوق الشغل الذي قد يكون محتاجا إلى يد عاملة من خارج الولايات المتحدة الأمريكية، ومادامت الولايات مسؤولة قانونيا عن مصالح سكانها، فإن لها حق الدفاع عنهم أمام المحاكم. وعليه، فإن المحكمة تأمر بإيقاف القرارات الرئاسية، التي صدرت بتاريخ 27 يناير، والتي تمنع مواطني سبع دول من دخول الأراضي الأمريكية، إلى غاية البت في جوهر القضية، والاستماع إلى كل الأطراف، كما تأمر المحكمة بتعميم هذا الحكم على كل الولايات، وليس، فقط، واشنطن ومينيسوتا اللتان رفعتا الدعوى أمام هذه المحكمة، عملا بالمادة الثامنة من الدستور، التي توجب توحيد قوانين التجنيس في كل الولايات.

هكذا أوقف القاضي الشجاع سريان الأمر الرئاسي، وهو يعرف أن هذا القرار سيجر عليه سلاطة لسان ترامب، وسيضع الجهاز القضائي في تماس مباشر مع الجهاز التنفيذي في موضوع حساس للغاية، عنوانه: «الأمن القومي الأمريكي».

ما هي الخلاصات السريعة من هذه النازلة الغنية بالدلالات القانونية والسياسية والحقوقية؟

الدلالة الأولى أن أمريكا بلاد مؤسسات وقانون وفصل سلط وتقاليد ديمقراطية، وأن الحكم ليس في جيب شخص واحد يصنع به ما يشاء، وحتى وإن كان هذا الشخص منتخبا بشكل ديمقراطي من قبل المواطنين، فهذا لا يطلق يده في شؤون الدولة وحياة الناس وحرياتهم بلا قيد ولا شرط ولا رقابة، وهذا هو جوهر التوازن في النظام السياسي الحديث، حيث السلط يراقب بعضها بعضا منعا للاستبداد بالحكم أو الرأي.

الدلالة الثانية أن القضاء المستقل والشجاع هو أكبر ضمانة للحقوق والحريات، وأن السلطة التنفيذية، حتى في أعرق الديمقراطيات الحديثة، يمكن أن تتجه إلى خرق هذه الحقوق، خاصة حقوق الأطراف الضعيفة في المجتمع، وأن القضاء يبقى الحصن الحصين للدفاع عن القيم المكتسبة من وراء نضال طويل ومرير. القضاء الحر والمستقل، الذي يشتغل داخله قضاة شجعان لا يخافون رئيسا ولا حكومة ولا سلطة، ولا حتى الرأي العام، ويحتكمون إلى القانون وإلى الضمير، وإلى شرعة حقوق الإنسان في أحكامهم، ولا يلعب بهم خوف أو مصلحة أو انحياز إلى عرق أو دين أو قومية.

الدلالة الثالثة في النازلة الأمريكية هي تكسير طابو «حماية الأمن القومي والتصدي للإرهاب»، الذي يستعمل فزاعة لإبعاد المحاكم عن فحص مشروعية القرارات الحكومية، بدعوى أن الرئيس مسؤول عن أمن المواطنين، وأن الحرب ضد الإرهاب تبرر التضييق على الحريات، وتعليق العمل بالقانون وضماناته. القاضي جيمس روبرت قال، في ختام تعليله حكم تعليق قرارات الرئيس ترامب: «إن المحكمة واعية بالأثر المهم الذي يمكن أن يكون لقرار التعليق هذا على الأطراف المعنية به، وعلى الجهاز التنفيذي للحكومة، وعلى المواطنين والمقيمين بالبلاد. وترى المحكمة أن الظروف التي رفعت فيها الدعوى للنظر فيها اليوم من الأهمية بمكان، وتحتم عليها التدخل للاضطلاع بواجبها الدستوري في نظامنا ثلاثي الأطراف». هذا معناه أن القاضي يقول للرئيس إن المحكمة تعرف حساسية الموضوع، وتعي الآثار التي سيخلفها قرار توقيف أمر رئاسي من هذا الحجم، لكن في البلاد ثلاث سلط، ويجب احترامها: سلطة التنفيذ وسلطة التشريع وسلطة القضاء، وأن الدستور فوق الجميع، وأن القانون لا يدور مع دوران مزاج ساكن البيت الأبيض.

المصدر : جريدة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قاض شجاع قاض شجاع



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 18:25 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

مذيعة "سي إن إن برازيل" تتعرض لسطو مسلح على الهواء
المغرب اليوم - مذيعة

GMT 17:01 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

مشاريع "زايد الخيرية" في كينيا تبلغ 92 مليون درهم

GMT 09:17 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

اكتساح كبير لمرتضى منصور في انتخابات نادي الزمالك

GMT 10:01 2016 الإثنين ,24 تشرين الأول / أكتوبر

شاليه متنقل لممارسة التزلّج والمشي على الجليد

GMT 05:31 2017 الأربعاء ,11 تشرين الأول / أكتوبر

ليلى شندول تنفي خطوبتها على فنان معروف في السر

GMT 17:52 2016 الجمعة ,15 إبريل / نيسان

المجوهرات دليل على حب الرجل للمرأة

GMT 15:45 2014 الجمعة ,27 حزيران / يونيو

سحب البطن إلى الداخل طريقك للحصول على قوام جميل

GMT 08:32 2017 الإثنين ,16 تشرين الأول / أكتوبر

ثلاجة "سيلفي" تعرض محتوياتها وتُرسلها إلى هاتفك
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya