توفيق بو عشرين
عدوى الاحتجاجات قد تنتقل إلى مدن أخرى، والتظاهرات الحاشدة التي خرجت لأربعة أسابيع على التوالي في عاصمة الشمال تكبر أسبوعا بعد آخر، وغضب الناس يزداد، وعجز الدولة عن إيجاد حل جذري يفاقم المشكل، وإذا كان هناك من يريد تسييس حركة «طفي الضو» فهذا طبيعي، فلا يوجد شيء فوق الأرض بعيد عن السياسة.
المشكل يكبر كل يوم، وعندما يطلب القصر خدمات بنكيران لإطفاء الحريق فهذا معناه أن أضواء الخطر اشتعلت في لوحة قيادة الداخلية والأمن والمخابرات… كلنا يعرف أن الأغلبية الساحقة من المغاربة تشكو ارتفاع ثمن الكهرباء والماء، وأن المراقبة منعدمة للشركات الأجنبية المكلفة بتوزيع هذه المادة الحيوية، وأن الوضع الاجتماعي هش للغاية، وأن الزيادات الأخيرة في تسعيرة الماء والكهرباء لم تواكبها سياسات اجتماعية لامتصاص غضب الطبقات الوسطى.
للأسف، المحاولة الأولى التي قام بها بنكيران لإطفاء الحريق لم تكن موفقة لأن رئيس الحكومة ظل بعيدا عن الملفات الحساسة في الداخلية، وهو الآن لا يتوفر على كل المعطيات المرتبطة بهذا الملف المعقد، ومن ثم لم يبلور فهماً دقيقا للمشكلة، لهذا فهو يسمع بأذن واحدة. جاء حصاد ببنكيران إلى طنجة لا لكي يساهم في إيجاد حل جذري للمشكلة، بل فقط لكي يبارك أو يسوق منظور وزارة الداخلية للحل. الإدارة الترابية التي ظلت تحتكر ملف التدبير المفوض لسنوات طويلة تريد من بنكيران أن يستعمل شعبيته ومواهبه الخطابية ونفوذه على حزبه لإطفاء النار، والعودة إلى الرباط، ثم ترجع الأمور إلى حالها: عقود فاسدة مع الشركات الأجنبية كتبت بمداد المصالح الضيقة للأشخاص، انعدام الرقابة على عمل هذه الشركات، فساد الحكامة، عدم التقيد بدفتر التحملات، غياب الاستثمارات المنصوص عليها في عقود التفويض، ومعها غياب عقوبات زجرية في حق الأطراف التي تخل بالتزاماتها.
السيد بنكيران، وعوض أن يمسك العصا من الوسط ويقترح حلولا عملية ومنصفة وجذرية تطفئ النار التي في الصدور، لجأ إلى تكييف «ديني منغلق» للاحتجاجات السلمية للطنجاويين، وأطلق عليها اسم «الفتنة»، وتحولت لقاءاته مع منتخبي طنجة حول مشكلة أمانديس إلى حفل مفتوح لـ«الغزل» في وزير الداخلية وفي الوالي اليعقوبي الذي أكرم الله به سكان طنجة، على حد قول رئيس الحكومة! أما الشركة الفرنسية التي خلقت كل هذه الأزمات لسنوات طويلة حتى وصلت إلى تهديد الاستقرار في كل البلاد، فإنها أخطأت وكفى، وعلى الطنجاويين أن يوقفوا الاحتجاج حتى وإن كانت الاحتجاجات سلمية، لأنها قد تؤدي إلى الفوضى، وإلى المس بكل مكتسبات المغرب الديمقراطية والتنموية!
السيد بنكيران ربما يعرف أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يخرج فيها الطنجاويون للاحتجاج على شركة أمانديس، وأن هذه ليست المرة الأولى التي تتعهد فيها وزارة الداخلية بالتدخل لحماية جيوب المواطنين، وأن هذه ليست المرة الأولى التي تتعهد الشركة بإيجاد حلول لمشاكل الفواتير المشتعلة، ولهذا فخطاب بنكيران الذي يدعو الساكنة إلى الهدوء لأن لجنة من وزارة الداخلية حلت بالمدينة، وستلزم الشركة بإيجاد حلول للمشاكل.. هذا خطاب لا يقنع أحدا، لأن الداخلية جزء من المشكل وليست جزءا من الحل. لو كانت الداخلية تقوم بمهامها في مراقبة شركات التدبير المفوض، وفي مراجعة العقود، وفي إظهار «العين الحمرا» للفرنسيين لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من خروج انتفاضات «طفي الضو».
هل تعرف، يا سيد بنكيران، أن أمانديس لم تستثمر حتى ربع الأموال التي تعهدت بإنفاقها على البنيات التحتية والتجهيزات الأساسية يوم وقعت العقد مع مجلس طنجة سنة 2002 تحت إشراف وزير الداخلية إدريس جطو؟ هل تعرف، السيد بنكيران، أن اللجان المكلفة من وزارة الداخلية بمراقبة عمل شركة أمانديس وفواتيرها وتحصيلها وتزويدها للناس بهذه السلعة الاستراتيجية تقبض ثمنها من قبل شركة أمانديس نفسها؟ هل يوجد في العالم نمط من الحكامة يسمح للشركة التي تخضع للمراقبة بأداء ثمن مراقبتها؟ هذا معناه أن الذي سيكتب تقرير التفتيش هو من يدفع المال!
لن نذهب بعيدا للدلالة على هناك فسادا كبيرا يضرب شركات التدبير المفوض، وأن المغاربة يدفعون من جيوبهم أخطاء إدريس البصري وإدريس جطو ومن جاء بعدهما من وزراء الداخلية ومديريها الكبار. هناك دراسة في مكتب علي الفاسي الفهري، رئيس المكتب الوطني للماء والكهرباء، أنجزت في 2008 ولم تنشر قط.. هذه الدراسة استهدفت عائلات في مدن مختلفة في الشمال والجنوب والوسط، في المدن التي توجد بها الشركات الأجنبية التي تتولى التدبير المفوض، وفي المدن التي لا توجد بها هذه الشركات، حيث التزويد بالماء والكهرباء تقوم به الوكالات المحلية أو يوزعه l’ONEE مباشرة مثل خنيفرة والخميسات وغيرها من المدن. تظهر الدراسة نتائج صادمة جدا، ذلك أن عائلات مكونة من العدد نفسه من الأفراد وتستهلك الكميات نفسها من الكهرباء والماء تؤدي فواتير مختلفة تماما وبفارق كبير في الثمن، حيث جاءت فواتير أمانديس في القمة من حيث أغلى سعر للماء والكهرباء في المغرب، ثم جاءت بعدها فواتير الوكالات les régies، ثم جاءت أسعار المكتب الوطني للماء والكهرباء هي الأرخص على الإطلاق.
هذا معناه أن المغاربة «يُسرقون عاين باين» من قبل هذه الشركات، وهذا معناه، ثانيا، أن المجالس المنتخبة ووزارة الداخلية لا تراقب شيئا، وهذا معناه، ثالثا، أن الذي أشرف على كتابة العقود ودفاتر التحملات لم يحمِ الصالح العام، وترك منافذ يخرج منها جمل بما حمل.
الآن طفح الكيل، وصبر الناس نفد، ولا ينفع الخطاب العاطفي في إقناع الناس بالتوقف عن الاحتجاج، وحتى إن اقتنعوا فإن جيوبهم ستصرخ.. الثقة فقدت في الشركة الفرنسية أمانديس، وهناك احتمالات كبيرة لانتقال العدوى إلى مدن أخرى، لهذا وجب اللجوء إلى الشركة الأم في باريس «فيوليا» بوساطة الإليزيه، الذي توسط لهؤلاء القوم للحصول على «دجاجة» التدبير المفوض، ومحاولة إقناعهم بأن فيوليا وأخواتها تهدد الاستقرار في المغرب، وأن زمن الغفلة انتهى، وأن هناك وعيا جديدا دخل إلى عقول الناس، وأن هناك جيلا جديدا من المنتخبين لن يقبلوا التواطؤ من الأجنبي ضد مصالح بلادهم، ومن هنا يبدأ الحل، وليس بإصدار فتوى اعتبار الاحتجاجات السلمية فتنة والخروج إلى الشارع قلة أدب مع الضيوف.