خرائط الدم

خرائط الدم

المغرب اليوم -

خرائط الدم

توفيق بو عشرين

ما أحوج العالم العربي، اليوم، إلى جولة، ولو سريعة، في متحف التاريخ، وقراءة قصة حرب الثلاثين عاما في أوروبا (1618-1648)، وهي حرب مازالت الذاكرة الأوروبية تحفظ بشاعتها وبربريتها. قراءة صفحاتها مفيدة اليوم للعرب، لأنها صورة لمستقبل الحرب الطائفية والمذهبية الجارية الآن في سوريا والعراق واليمن ولبنان، والقائمة مفتوحة… إنه صراع يرسم خرائط الدم الجديدة بين الطوائف والمذاهب، في منطقة بقيت في ظلام الاستبداد طويلاً، والآن، وجدت نفسها أمام ساعة الحساب. الاستبداد والفقر والأمية والهشاشة الاجتماعية كلها جمعت في قدر واحدة، ووضعت على نار مستعرة، والنتيجة ما نرى من اصطفافات مذهبية وطائفية، ومن قتل على الهوية، ومن انفجار يتغذّى من تراث الصراع بين السنة والشيعة، والمسلمين والمسيحيين، والعرب والأكراد، والملل والنحل.

تصف كتب التاريخ حرب الثلاثين عاما في أوروبا فتقول: «كانت حربا مدمرة.. جيوش عدة شاركت في الحرب من ألمانيا وفرنسا والسويد وهولندا وإسبانيا والدنمارك. حاربت المذاهب المسيحية الكاثوليكية ضد البروتستانتية، ثم جاء الدور على الكالفينيين. مات ستة ملايين من 21 مليون جندي شاركوا في الحرب، أي ثلث سكان الدول المشاركة في الحرب. تراجعت الفلاحة، لأن الرجال الذين سيزرعون الأرض ماتوا في الحرب. 29 ألف قرية أصبحت مهجورة، وآلاف القرى الأخرى أحرقها أصحابها، بعد هزيمتهم، حتى لا تسقط في أيدي أعدائهم، فيستفيدون منها. أكل الناس الكلاب والقطط والفئران والحشائش. في الألزاس، تهافت الجياع على أكل الجثث المشنوقة. في أراضي الراين، كان الناس ينبشون القبور، وتباع الجثث في الأسواق لأكل لحومها، واعترفت امرأة في مدينة ساربروكين بأنها أكلت جثة طفلها بعد وفاته، وأصبحت المدن الكبرى أطلالاً خربة. تدهورت الصناعة وخربت التجارة، وصار التجار، الذين كانوا أثرياء، يتسولون ويسرقون ليأكلوا. بات الهواء فاسداً وسامّاً بسبب تعفن الجثث، وانتشار الفضلات، فانتشرت الأوبئة. مر الإسبان من ميونخ، فتركوا وراءهم طاعونا قتل 10 آلاف ضحية في أربعة أشهر. ذابت الفنون وغابت الآداب وعم الحزن والظلام.

بدأت الحرب دينية بين الكاثوليك والبروتستانت، ثم أضحت سياسية حول من يسيطر على الدول الأخرى، بين فرنسا والنمسا.

خسرت ألمانيا نصف رجالها. التشيك فقدوا ثلث سكانهم. أصبحت النساء أكثر من الرجال، فعاد الأوروبيون إلى تعدد الزوجات، وفرضت مدينة نوربورغ، مثلا، على القساوسة أن يتزوجوا، وأن يسمح لكل ذكر أن يتزوج امرأتين.

ثلاثون عاماً من حربٍ مدمرة، خاضها متعصبو المذاهب، وجرّوا إليها أطماع السياسيين، فخرج الجميع خاسرين».

هل العالم العربي، اليوم، بعيد عن هذه الصورة؟ لا أظن، وإن كنتُ أتمنى أن أكون مخطئا. وحش الفتنة الطائفية خرج من القمقم، ولن يرجع إلى مكانه حتى يشبع من الدماء. اليوم، العراقي الشيعي يكره العراقي السني أكثر من أي عدو آخر، ويتحالف مع الإيراني لقتل ابن الوطن، الذي عاش معه قروناً في أمن وأمان! والعراقي السني يفضل أن يضع يده في يد داعش، لأنه يتوهم أنها تحميه من عدوه الشيعي. العلوي لا يرى البراميل المتفجرة التي يلقيها بشار الأسد فوق رؤوس المدنيين تسقط على بشر من دم ولحم ومشاعر، هو لا يرى في الحرب إلا سنّة يقاتلون شيعة. الكل يتجرد من إنسانيته، ويلبس قناع الطائفية، التي جرى تسييسها وتحزيبها وعسكرتها، لتلعب دور المحفز على القتال. والسلاح الفتاك ضد ربيع الشعوب، الذي انفجر قبل ثلاث سنوات طالباً «الخبز والحرية والكرامة الإنسانية». من سيواجه شباباً يحلمون بالحرية، ويقولون للحكام بأمر الاستبداد: «ارحل»؟ سلاح واحد سيحسم المعركة مع هؤلاء في نظر حكام الاستبداد.. إنه سلاح الطائفية والمذهبية المقيتة، التي تجر خلفها قروناً من الحقد والكراهية والعنف.

مع ذلك، حالنا سيكون أفضل من حال أوروبا في حرب الثلاثين عاماً بشيء واحد، هو الكاميرا، التي توثق البشاعة، ويوتيوب، الذي يخزن البربرية للأجيال المقبلة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خرائط الدم خرائط الدم



GMT 14:23 2020 الأحد ,05 تموز / يوليو

بعض شعر العرب - ٢

GMT 08:03 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

وعادت الحياة «الجديدة»

GMT 07:58 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

المغامرة الشجاعة لمصطفى الكاظمي

GMT 07:54 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

لى هامش رحلة د. أبوالغار

GMT 07:51 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

«28 مليون قطعة سلاح»

GMT 07:48 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

الفيس.. والكتاب!

GMT 10:48 2020 السبت ,27 حزيران / يونيو

الأطباء ورئيس الوزراء

GMT 10:46 2020 السبت ,27 حزيران / يونيو

وداعًا للشيشة!

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 08:36 2019 الأحد ,31 آذار/ مارس

سيخيب ظنّك أكثر من مرّة بسبب شخص قريب منك

GMT 17:16 2019 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

تكبير الأرداف من دون عملية

GMT 19:26 2017 السبت ,16 أيلول / سبتمبر

"إلعب إلعب" أغنية سناء محمد الجديدة على يوتيوب

GMT 03:38 2019 الخميس ,30 أيار / مايو

6 علامات تُشير إلى مشاكل في الغدة الدرقية
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya