توفيق بو عشرين
أشهر عازب في المملكة يدخل إلى القفص الذهبي، ويودع حياة العزوبية، ويبدأ في تحمل أعباء الأسرة إلى جانب الأعباء التي يضطلع بها في الدولة والقصر. هذا الحدث لم يبق محصورا بين جدران البلاط الملكي، بل شارك ويشارك فيه الرأي العام المغربي الذي يتابع باهتمام كبير الأفراح والأتراح في البيت الأول للمملكة.. بيت الحكم.
الأمير مولاي رشيد يتزوج، ولا حديث للناس هنا منذ أشهر إلا عن هذا الحدث، يسألون عن العروس، وعن عائلتها وعن طقوس الزواج في القصر الملكي، وعن جديد هذه الطقوس وقديمها، وينتظرون أن يعرفوا كيف سيجري عرس آخر أبناء الملك الراحل الحسن الثاني، وما الذي سيتغير أو لا يتغير من التقاليد المرعية…
اللباس التقليدي والأهازيج الموروثة والعمارية المنقوشة والبرزة الموضبة والطقوس والأعراف واللغة المحيطة بالحدث السعيد وسط القصر… كلها تسافر بك إلى عمق التاريخ، لتقول لك إن في هذه البلاد ثقافة عريقة ودولة ضاربة جذورها في عمق هذه الأرض، وإن الأسرة التي تحكم منذ أربعة قرون ليست نبتة حائطية، وإن الناس يحيطونها بحب وإعجاب واهتمام كما يطالبونها بالمزيد من الانفتاح ومواكبة العصر والانسجام مع التطور والعصرنة… لا تناقض بين الاثنين…
السياسة والإعلام والدعاية تلعب دورا في تسويق الصورة عن الحكام والملوك والرؤساء، لكن الثقافة والعراقة والتاريخ ليس شغل «تسويق» ولا «ماركوتينغ» سياسي.. إما أن توجد أو لا توجد…
المؤسسة الملكية في المغرب مؤسسة تقليدية، وهي أقدم مؤسسة موجودة إلى الآن في المغرب، ولها ذاكرة وطقوس وأعراف وخبرة في الحكم وتجربة في إدارة شؤون الأمة. هذه المؤسسة مرت من كل تقلبات الزمن، وعرفت عهودا زاهرة وأخرى بئيسة، لكنها استمرت إلى الآن، وحتى الاستعمار الفرنسي الذي صدم المغاربة من جهتين (من جهة استعماره بلادهم، ومن جهة إدخال مظاهر الحداثة والتحديث إلى مملكة كانت تعيش في القرون الوسطى).. حتى هذا الاستعمار لم يستطع أن ينهي عمر العرش العلوي كما فعل في تونس والجزائر، وبلاد أخرى حيث الداي والباي كانا شبه أمراء تابعين للباب العالي في الإمبراطورية العثمانية.
الوطنيون الذين وضعوا شرط عودة السلطان محمد الخامس من المنفى كشرط قبلي للتفاوض على استقلال البلد، كانوا يعرفون عمق ارتباط المغاربة بالعرش، وحتى وإن كانوا يخططون لتحديثه وزواجه بالدولة الحديثة، فإن أكثرهم راديكالية لم يفكر في طي صفحة هذا العرش، وقد كان بعض الجالسين عليه ممن سهلوا لفرنسا احتلال المغرب بعقد حماية مزور، لكن العقل السياسي للمغاربة كان يفصل دائماً بين العرش والجالس عليه؛ الأول ثابت والثاني تجري عليه أحوال الزمن وقانون الحياة والموت…
عرس الأمير مولاي رشيد والطقوس العريقة التي تحيط به والتقاليد التي تخرج من التاريخ إلى الحاضر اليوم مناسبة لإعادة التفكير في علاقة المغاربة بعرشهم من زاوية أخرى، وهنا يمكن إثارة عدة ملاحظات بشكل سريع…
أولا: العرش مؤسسة سياسية لكنها في الوقت نفسه وعاء ثقافي وأنتربولوجي يعكس ملامح الشخصية المغربية، ويعكس حاجة رآها المغاربة في مؤسسة تجمع اختلافهم، وتعبر عن إرادة العيش المشترك بينهم، والذين يريدون المحافظة على الطابع الملكي لهذا البلد لا يفعلون ذلك دائماً انطلاقا من حسابات سياسية أو مصلحية أو تملقا للسلطة أو خوفا منها، بل انطلاقا من موروث ثقافي وحضاري وسياسي وتجربة استغرق بناؤها قرونا، ويجب استثمارها إيجابيا لخلق استقرار حقيقي في ظل نظام ديمقراطي…
ثانيا: الذي يحمي أي عرش أو ملك أو نظام هو الشعب، وليس الأجهزة ولا الجيوش ولا أدوات الإكراه ولا المال، هؤلاء بالعكس يسيئون إلى المؤسسة الملكية عندما يحفرون خنادق عميقة بينها وبين الشعب، وبينها وبين الإصلاح، وبينها وبين التطور والانفتاح. المغاربة الذين خرجوا في 20 فبراير بطريقة تلقائية ودون تأطير من أحد في عز فورة الربيع الديمقراطي يطالبون بكل شيء تقريبا، لم يرفعوا شعار «ارحل»، ولا دعوا إلى تغيير نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري. لم يفعلوا ذلك بتوجيه من أحد ولا خوفا من أحد، بل عن قناعة تلقائية بأن العرش مازال شريكا في عملية بناء المستقبل وبناء انتقال ديمقراطي حقيقي…
ثالثا: العراقة والتاريخ والتقاليد ومواريثها في السياسة ونظم الحكم مكاسب قد تكون إيجابية ومساعدة على نحت الهوية السياسية لشعب من الشعوب ودولة من الدول، لكن دون أن تصير هذه التقاليد وهذه المواريث قيودا في الأرجل، وسلاسل في العقول تكبلها وتمنعها من الانفتاح على العصر ومقومات التطور. الذين يريدون أن يقنعونا اليوم بأن الحداثة لا يمكن أن تدخل إلى القصر مخطئون، والذين يريدون خلق تعارض بين المؤسسة الملكية والديمقراطية مخطئون، والذين يريدون خلق تناقض بين صناديق الاقتراع والعرش لا يملكون الغيرة على أحد فيهما…