النسبة إلى الدكتور عبدالكريم الإرياني الذي شغل ابتداء من سبعينات القرن الماضي مناصب عليا في اليمن، بما في ذلك موقع رئيس الوزراء، لم تكن هناك مواقف محايدة من الرجل. لم يكن الإرياني يؤمن سوى بالوضوح والكلام المباشر. لذلك كان الانقسام حوله بين معجب محبّ، وكاره له في العمق.
لم يوجد شخص لا رأي له بعبدالكريم الإرياني الذي ينتمي إلى عائلة شافعية من القضاة في محافظة إب، وهي من المحافظات اليمنية الخضراء التي تكسوها الغابات.
توفّي الدكتور عبدالكريم، كما يسمّيه أصدقاؤه، قبل أيّام في مستشفى في مدينة فرانكفورت الألمانية. خانه قلبه الذي ضعف كثيرا في الأشهر القليلة الماضية نتيجة الجهود المضنية التي بذلها من أجل الخروج من الأزمة اليمنية. كان على سفر دائم على الرغم من تجاوزه الثمانين من العمر. كان يحاول ويحاول رافضا أن يتسلل إليه اليأس في وقت تعرّض فيه لكلّ أنواع الاضطهاد من الحوثيين الذين عبثوا بمنزله في صنعاء، كما سعوا إلى إذلاله في إحدى المرات في المطار عندما أصرّوا على تفتيش حقيبته بعيد خروجه من مطار العاصمة!
لم يكن الإرياني مجرّد مهندس زراعي وحامل دكتوراه في البيولوجيا من جامعة أميركية هي يال. كان الأهّم من ذلك كلّه أنه ذلك السياسي اليمني اللامع الذي يصعب أن يأخذ أحد مكانه. لم يترك فراغا في اليمن، في وقت يحتاج فيه البلد إلى رجالات كبار فحسب، بل ترك فراغا عربيا أيضا. هذا الفراغ ليس عائدا إلى الأفكار ذات الطابع الليبرالي التي كان يحملها، بمقدار ما أنّه عائد إلى أن قليلين جدّا كانوا يتمتعون بتلك الثقافة العربية والإسلامية التي كان عقله يختزنها.
قليلون يعرفون بالإسلام كما يعرف، كذلك بالمسيحية واليهودية. قليلون، كانوا في الوقت ذاته، يمتلكون تلك القدرة على الدخول في حوارات عميقة بلغة إنكليزية واضحة وصحيحة مع كبار المسؤولين الأميركيين والأوروبيين.
أما في ما يخص المسؤولين العرب، فهناك من كان مغرما بجلسة مع الدكتور الإرياني… وهناك من لا يريد أن يسمع اسمه بأي شكل. كان اسمه كفيلا بإثارة حساسيات بالغة لدى هذا المسؤول العربي أو ذاك.
يمكن وصف الدكتور عبدالكريم بأنّه لعب دورا رئيسيا في جعل اليمن يتحوّل إلى دولة ذات ثروة زراعية. استخدم صلاحياته في السبعينات من أجل وضع قيود على استيراد الفواكه والخضار. حفّز يمنيين كثرا على الاستثمار في الزراعة. صار البلد قادرا على سدّ حاجاته الداخلية في البداية، ثمّ انتقل إلى تصدير بعض إنتاجه.
من الزراعة انتقل إلى النجاح في الخارجية. معظم الدبلوماسيين اليمنيين المرموقين يعتبرون الدكتور عبدالكريم مثلهم الأعلى. كان لديه فكر استراتيجي وفهم للتوازنات الإقليمية والدولية. كان خير رفيق للرئيس علي عبدالله صالح طوال سنوات، قبل أن يفترقا إثر التغييرات التي طرأت، بشكل تدريجي، على تصرّفات الرئيس السابق الذي شعر في مرحلة معيّنة، خصوصا منذ العام 1994، بأنّه “لم يعد في حاجة إلى مستشارين”.
قاد الإرياني الدبلوماسية اليمنية خلال حرب الانفصال صيف العام 1994. كان رئيس الوزراء بالوكالة، وقتذاك، الدكتور محمّد سعيد العطّار الذي لعب في حينه دورا محوريا في تلميع صورة اليمن. كانت معرفة الإرياني في طريقة عمل السياسة الأميركية كافية لتفادي وقوع اليمن في أفخاخ كثيرة. وبعد توقف الحرب، لعب دورا رئيسيا في المواجهة الدبلوماسية مع أريتريا التي احتلت جزيرة حنيش في العام 1995، وكانت ترغب في جرّ اليمن إلى حرب خاسرة سلفا.
لجأ اليمن إلى التحكيم الدولي واستعاد حقوقه. الأهمّ من ذلك، أن الدكتور عبدالكريم كان من بين دعاة اللجوء إلى الدبلوماسية في وقت كان هناك مزايدون من نوع الشيخ عبدالمجيد الزنداني يطالبون بدخول حرب وتطويع مقاتلين من أجل استعادة حنيش. استعاد اليمن حنيش من دون إراقة نقطة دم…
ما فعله عبدالكريم الإرياني لليمن واليمنيين لا يقدّر بثمن. كان لسانه لاذعا وقد سمحت له ثقافته، التي لم يكن يمتلك مثيلا لها سوى قليلين جدّا، بالاستعانة بالتاريخ الإسلامي في هجاء خصومه. على سبيل المثال وليس الحصر، أذكر اتصاله في العام 1994 في عز حرب الانفصال التي خاضها الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يحكم الجنوب قبل الوحدة. اتصل وقتذاك لينشر تصريحا يصف فيه قادة الحزب الاشتراكي بأنهم “يمتلكون باطنية القرامطة ودموية الخوارج”.
هناك خط دائم ربط بين كلّ تصرّفات عبدالكريم الإرياني. هذا الخط هو خط الدفاع عن “الشرعية” ومؤسسات الدولة في اليمن. كان بين مجموعة كبيرة من رجالات الدولة أحاطوا بعلي عبدالله صالح لفترة طويلة وساعدوه في اتخاذ قرارات تتسم بالحكمة وذلك في زمن كان مجلس الرئيس اليمني يجمع الإرياني وعبدالعزيز عبدالغني ويحيى المتوكّل ومحمّد سعيد العطّار ومشايخ كبار من طينة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، رحمهم الله جميعا.
كان تيّار الإخوان المسلمين يثير دائما مخاوف لدى الإرياني. كان يعتبر أنّ “الإخوان” يسعون إلى السيطرة على “التجمع اليمني للإصلاح” الحزب الكبير الذي كان يتزعمّه عبدالله الأحمر. كان يخشى جرّ زعيم قبيلة حاشد إلى مواقف الإخوان. كان بعيد النظر. لم تمض أسابيع على وفاة الشيخ عبدالله، حتّى بدا واضحا أن “الإصلاح” صار تنظيما إخوانيا ولا شيء غير ذلك.
معظم الدبلوماسيين اليمنيين المرموقين يعتبرون الدكتور عبدالكريم مثلهم الأعلى. كان لديه فكر استراتيجي وفهم للتوازنات الإقليمية والدولية
بقي عبدالكريم الإرياني على علاقة بعلي عبدالله صالح على الرغم من الفتور الذي ساد بينهما. استعان الرئيس السابق به في المفاوضات مع الحوثيين بعد الحرب الأولى في العام 2004. كانت الشكوى الدائمة للإرياني أن الرئيس اليمني لا يستقرّ على رأي واحد طويلا. توصّل إلى اتفاقات عدّة مع الحوثيين برعاية قطرية. ولكن في اللحظة الأخيرة، كان علي عبدالله صالح يغيّر رأيه ويطلب منه عدم توقيع الاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه. توصل كذلك في 2010 إلى اتفاق مع أحزاب “اللقاء المشترك” التي كانت تشكل المعارضة في شأن الانتخابات واللوائح الانتخابية. كان يمكن للاتفاق أن ينزع فتيل الأزمة التي انفجرت في 2011 بتحريض من الإخوان المسلمين. لكن علي عبدالله صالح طلب منه، مرّة أخرى، في اللحظة الأخيرة عدم التوقيع.
في الثالث من يونيو 2011 تعرّض الرئيس السابق لمحاولة اغتيال في مسجد دار الرئاسة (مسجد النهدين). لم يكن الإرياني حاضرا. كان مقاطعا للرئيس. ولكن عندما علم بما حدث، توجّه إلى المستشفى الذي كان يعالج فيه علي عبدالله صالح تمهيدا لنقله إلى الرياض. قال لي “أمسكت يده المضمّدة. ولمّا تعرّف إليّ كانت لديه كلمات قليلة: تنظيم القاعدة اخترق الحرس الرئاسي”.
افترق الإرياني عن علي عبدالله صالح لسبب واحد عائد إلى أنّه يؤمن بـ”الشرعية” وما بقي من مؤسسات الدولة. صار مستشارا للرئيس الانتقالي عبدربّه منصور. غادر صنعاء بعد هجوم شنّه على الحوثيين الذين كان يعتبرهم منذ العام 2004 “أشدّ خطرا على اليمن من الانفصاليين”. لم يوفرّهم قبل مغادرته العاصمة نهائيا. قال فيهم “أعرف هذه الفئة السياسية أو الحركة الحوثية أو أنصار الله. إنّهم يمثلون حركة سياسية غير مدنية تسعى إلى تحقيق أهدافها بالطرق والوسائل العسكرية. بالنسبة إلي تلك الأهداف غير معلنة أو غير معلومة ويبدو أنها غير محددة… ما نراه اليوم في كلّ مؤسسة وفي كلّ وزارة هو تصرّفات لقوة سياسية طابعها عسكري ولا يحكمها القانون. يؤسفني أن أكون قاسيا. لكن الكذب محرّم”.
رفض عبدالكريم الإرياني أن يكذب على اليمنيين يوما. يرحل مطمئنا غير نادم سوى على أنّه لم يشاهد آخر مسرحية تعرض في نيويورك أو لندن. كان سياسيا يمنيا وعربيا من نوع مختلف ومن طينة أخرى تحبّ ثقافة الحياة. كان يستمتع بمجلس القات في صنعاء، حيث كانت نقطة ضعفه الوحيدة مراعاة أفراد أسرته أكثر من اللزوم أحيانا، ولا ينسى الكلام في الفن والأدب والسياسة، وآخر مطعم دخله في إحدى مدن الولايات المتحدة أو في هذه المدينة الأوروبية أو تلك… أو في بيروت التي كان يكنّ لها ودّا خاصا، بل خاصّا جدّا.