يصعب تصديق أن إيران تريد فتح صفحة جديدة مع دول الخليج العربي، لا لشيء سوى لأن الكلام الجميل شيء، والأفعال شيء آخر. يبقى الكلام الجميل كلاما جميلا، خصوصا عندما يستخدم للتغطية على أفعال مشينة تستهدف كلّ دولة من دول المنطقة، إنْ في الجوار الإيراني وإن في المشرق العربي، خصوصا في سوريا ولبنان وفلسطين.
مناسبة الكلام عن السلوك الإيراني طلب “الجمهورية الإسلامية” وساطة الكويت مع دول الخليج عبر وزير الاستخبارات سيد محمود علوي الذي زارها أخيرا.
هل تظنّ إيران أن دول الخليج العربي ساذجة إلى درجة أنّ في الإمكان فتح صفحة جديدة معها بين ليلة وضحاها من دون تغيير في العمق في سلوكها على كلّ المستويات؟
قبل كلّ شيء، ليس سرّا أن إيران تحتل ثلاث جزر إماراتية هي طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى، وذلك منذ العام 1971، أي منذ عهد الشاه. هل تغيّر شيء في السياسة الخارجية لإيران منذ الانتهاء من عهد الشاه؟
من البحرين، إلى اليمن، إلى سوريا، إلى العراق… إلى الكويت ولبنان، مرورا بالأراضي الفلسطينية، تدل كل التصرفات الإيرانية على رغبة في انتهاج سياسة تقوم على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية ليس إلّا.
لكلّ بلد عربي قصّة مع إيران التي باتت تعتبر نفسها قادرة على المزايدة على العرب فلسطينيا. إذا كان من خدمة أدتها إيران للفلسطينيين، فإن هذه الخدمة صبّت في مصلحة إسرائيل. كلّ ما فعلته إيران هو المتاجرة بالقضية الفلسطينية، وذلك كي يضيع الفلسطينيون كلّ الفرص التي أُتيحت من أجل الانتهاء من الاحتلال.
صحيح أن إسرائيل لم تعمل يوما من أجل السلام، لكنّ الصحيح أيضا أنّ التوجه الإسرائيلي الهادف إلى تكريس الاحتلال لقي دعما إيرانيا مستمرّا. كان الهدف الدائم لإيران تعطيل أي عملية سلمية من جهة، والمزايدة على العرب من جهة أخرى.
من يتذكّر دور العمليات الانتحارية التي نفّذتها “حماس” بدعم وتشجيع إيرانيين في القدس وتل أبيب وأماكن أخرى من أجل تأمين وصول بنيامين نتانياهو إلى موقع رئيس الوزراء في أبريل 1996… بعد اغتيال إسحق رابين في نوفمبر العام 1995؟
دفع الفلسطينيون غاليا ثمن الدعم الذي وفرته لهم إيران التي عملت كلّ ما تستطيع لتكريس الانفصال بين الضفّة الغربية وقطاع غزّة. من الصعب تقدير حجم الضرر الذي خلفته إيران على الصعيد الفلسطيني، في وقت كان كلّ همّ طهران منصبّا على تحويل غزّة قاعدة تستخدم في عملية زعزعة الاستقرار المصري.
متى يطرح موضوع الدور الإيراني في المجال الإقليمي، يحتار المرء من أين يبدأ، علما أنّه يستطيع دائما أن يبدأ من الآخر، أي من لبنان الذي يتعرّض، يوميا، لضربات متكرّرة بسبب المشروع التوسّعي الإيراني الذي يصرّ على جعل الوطن الصغير رهينة لديه.
بالنسبة إلى دول الخليج التي تقول إيران إنها تريد فتح صفحة جديدة معها، ليس معروفا لماذا هذا الإصرار على عزل لبنان عن محيطه العربي واستخدامه للإساءة إليها. تبلورت الرغبة الواضحة في عزل لبنان عن العرب، خصوصا عن أهل الخليج، في عهد حكومة “حزب الله”. كانت هذه الحكومة برئاسة شخصية سنّية هي نجيب ميقاتي الذي قبل توفير الغطاء المطلوب منه توفيره للحزب الذي بدأ ينشئ “أجنحة عسكرية” لعائلات شيعية معروفة. لم يكن من دور، لهذا “الجناح العسكري” أو ذاك المنتمي لهذه العائلة أو تلك، سوى تهديد العرب الذين يوجدون في لبنان، مع تركيز خاص على أهل الخليج.
كيف يمكن لإيران الادعاء أنّها دولة مسالمة في وقت ليس ما يشير إلى أنّ لديها همّا آخر غير همّ نشر البؤس في لبنان واستخدامه “قاعدة” لانطلاق عمليات عدائية لدول الخليج؟
تترافق عملية إفقار لبنان، بشكل ممنهج، مع سعي جدّي إلى إلغاء مؤسسات الدولة اللبنانية. فتورّط “حزب الله” في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه، جزء لا يتجزّأ من عملية مدروسة تستهدف تأكيد أن الدويلة التي أقامها “حزب الله”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، أقوى بكثير من الدولة اللبنانية.
صار من واجب الدولة اللبنانية توفير الغطاء الذي تحتاجه الدويلة لمتابعة السير وفق منهج معين أقل ما يمكن أن يوصف به أنه منهج ذو طبيعة مذهبية فاقعة.
يوفر لبنان المظلوم، الذي تمنع فيه إيران انتخاب رئيس للجمهورية، مثلا على مدى الاستهتار بالعرب وببلد كان في استطاعته توفير نموذج للعيش المشترك في الشرق الأوسط. وهذا معناه، في طبيعة الحال، وجود نموذج حي يتعارض تماما مع ما تمثّله دولة عنصرية مثل إسرائيل تصرّ على اعتراف العرب والفلسطينيين بها كـ”دولة يهودية”.
من المعروف، تماما، أن الهدف من الاعتراف بـ“الدولة اليهودية” تبرير تهجير ما بقي من المواطنين الفلسطينيين المقيمين داخل ما يسمّى “الخط الأخضر”، في يوم من الأيّام، بحجة المحافظة على المجتمع الإسرائيلي، الذي صار مجتمعا عنصريا بامتياز.
ليس أمام الكويت سوى القيام بوساطة من دون أن تكون مقتنعة بها. إنها وساطة كويتية تجري بعيدا عن الأوهام، ذلك أن أهل الخليج في حاجة إلى أفعال وليس إلى كلام جميل وشعارات لا تقدّم ولا تؤخّر، بمقدار ما أنّها غطاء للعدوانية الإيرانية. ما لم تدركه إيران أن العرب قرروا أخيرا مواجهتها في كلّ بقعة من بقاع المنطقة، وأن الأساليب التي استخدمتها في الماضي لم تعد صالحة للمرحلة الجديدة التي تتسّم بوجود إرادة عربية مصمّمة على مقاومة المشروع الإيراني.
ليست “عاصفة الحزم” في اليمن سوى انعكاس لهذه الإرادة العربية. ليس الموقف من “حزب الله” وممارساته سوى دليل إضافي على أن لا مجال لتحسين العلاقات الخليجية – الإيرانية قبل أن تظهر طهران بالملموس أنّها تغيّرت.
إلى إشعار آخر لا دليل على أي تغيير إيراني من أيّ نوع كان. لا يمرّ يوم إلا وتزداد الدلائل على أن “القاعدة” وكلّ ما أنتجته من تنظيمات متطرّفة كـ“داعش” وغير “داعش” جزء لا يتجزّأ من استراتيجية إيرانية بعيدة المدى أوصلت الشرق الأوسط والخليج إلى ما وصلا إليه.
كلّما مرّ يوم تتكشف فصول جديدة من التعاون العميق بين ميليشيات إيران و“القاعدة”، وهو تعاون يعطي فكرة عن خطورة التحالف القائم بين التطرّفين السنّي والشيعي على الاستقرار في المنطقة كلّها.