يدفع لبنان للأسف ثمن من يسعى إلى بناء انتصارات على أوهام من نوع أن النظام السوري في طريق عودته إلى حكم سوريا بعد استعادة سيطرته على نسبة خمسة وثمانين في المئة من أراضي ما كان يعرف بـ“الجمهورية العربية السورية”. لا يعني مثل هذا الكلام عن بقاء النظام السوري وعن سيطرته على نسبة معيّنة من الأراضي سوى العجز عن استيعاب ما يدور في المنطقة عموما وفي الداخل السوري على وجه التحديد. تحوّل البلد، الذي كان اسمه “الجمهورية العربية السورية” إلى مناطق نفوذ لخمس قوى دولية وإقليمية على الأقلّ، فيما بشّار الأسد في دمشق بحماية روسية وإيرانية بعدما صار النظام الأقلّوي الذي أقامه والده في مزبلة التاريخ، هذا في أحسن الأحوال.
لماذا كلّ هذا الاستعجال في الانتصار على لبنان وعلى ضمّه إلى “محور الممانعة” في وقت بات همّ هذا المحور محصورا في كيفية عقد لقاءات بين وزراء لبنانيين وآخرين ينتمون إلى النظام السوري، بعيدا عن أيّ توافق داخل مجلس الوزراء على أيّ خطوة تطبيعية من هذا القبيل؟
هناك لقاء وحيد يمكن فهم أسبابه وإيجاد مبررات له، هو ذلك الذي عقده وزير الخارجية جبران باسيل مع وزير خارجية النظام السوري في نيويورك والذي حمل شخصا يحترم نفسه هو وزير الداخلية نهاد المشنوق على رفض مرافقة رئيس الجمهورية ميشال عون في الزيارة التي قام بها لباريس.
يمكن فهم طلب باسيل، وهو رئيس “التيار الوطني الحر”، عقد لقاء مع المعلّم من زاوية أنّ عليه تقديم أوراق اعتماده إلى “حزب الله” يوميا كي يسهّل له الحزب الوصول إلى موقع رئيس الجمهورية. يأتي ذلك في وقت مطروح من سيخلف عون في الرئاسة اليوم أو غدا أو بعد انتهاء ولايته في السنة 2022؟
يعرف وزير الخارجية أنّ المرشّح الجدّي الوحيد للرئاسة، في ظل المعطيات الراهنة، هو زعيم “تيّار المردة” النائب سليمان فرنجيه. سبق لفرنجيه أن توصّل إلى اتفاق مع زعيم “تيار المستقبل” الرئيس سعد الحريري على كيفية التعاطي بينهما في حال وصوله إلى الرئاسة.
إذا، لا حاجة إلى بحث طويل لمعرفة أسباب تلك الرغبة الكامنة لدى رئيس “التيار الوطني الحر” في الارتماء في أحضان النظام السوري عبر اللجوء إلى حجج واهية. من بين هذه الحجج، التي نفى النظام السوري نفسه أن تكون موضع بحث، مسألة عودة النازحين السوريين في لبنان إلى الأرض السورية التي طردوا منها. ربّما نسي باسيل أن هؤلاء النازحين موجودون في لبنان بسبب النظام نفسه وبسبب مشاركة “حزب الله” وميليشيات أخرى تابعة لإيران في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري منذ العام 2011.
ليس السؤال لماذا يلتقي وزراء لبنانيون وزراء النظام السوري. السؤال لماذا يدفع “حزب الله” هؤلاء إلى الإقدام على مثل هذه الخطوة والسير في هذا الاتجاه. هل وضع اليد على لبنان والانتصار عليه تعويض عن الخسائر التي منيت بها إيران في سوريا، حيث بات معروفا أنّ عليها التزام خطوط حمر معيّنة وضعها لها الروس الذين دخلوا في اتفاقات مع الأميركيين والإسرائيليين تتناول مناطق معيّنة من بينها الجنوب السوري والجولان؟
تعتقد إيران أنّ ليس أمامها سوى تحقيق مزيد من الانتصارات على لبنان وعلى الشعب اللبناني. وهذا يفسّر، إلى حدّ كبير، الضغوط التي تمارس من أجل تطبيع العلاقات بين لبنان الرسمي والنظام السوري. عندما قاطع نهاد المشنوق زيارة رئيس الجمهورية لباريس، لم يفوّت وزير الداخلية على نفسه رحلة سياحية ممتعة ذات طابع فولكلوري من حقّ ميشال عون أن يقوم بها وأن يعتبرها انتصارا كبيرا له، أقلّه على الصعيد الشخصي. ذهب ميشال عون إلى فرنسا في 1991 لاجئا وعاد إليها في 2017 رئيسا للجمهورية. لا يمكن إلا الاعتراف بذلك بغض النظر عن الثمن الذي دفعته المؤسسات اللبنانية، خصوصا مجلس النوّاب، في فترة الفراغ التي سبقت انتخابه رئيسا.
في الواقع، دقّ وزير الداخلية جرس الإنذار. يقول هذا الإنذار إن إيران تعمل جاهدة عبر “حزب الله” من أجل إيجاد حال تطبيع بين الحكومة اللبنانية والنظام السوري كي تؤكّد أنّها ممسكة تماما بلبنان وبحكومته.
لبنان لا يزال يقاوم. هناك وعي لدى قسم كبير من اللبنانيين، في مقدّمتهم رئيس مجلس الوزراء بأن التوافق ضروري ولكن ليس بأيّ ثمن. الأهمّ من ذلك كلّه أن لبنان ليس وحيدا كي يسقط في الفخّ الذي تنصبه له إيران الساعية إلى امتلاك أوراق إقليمية تسمح لها بالتفاوض من موقع قوة مع الولايات المتحدة وإسرائيل متى آن أوان التفاوض والصفقات. هل سيأتي وقت، يوجد فيه من يريد عقد صفقة ذات طابع إقليمي مع إيران، علما أن ليس ما يضمن وجود رغبة أميركية حقيقية في تكرار تجربة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما معها.
لبنان ليس مكسر عصا. صحيح أن مؤسسات الدولة مهلهلة، صحيح أنّ عدد المسؤولين القادرين على فهم ما يدور في المنطقة والعالم قليل جدّا، خصوصا عندما يتعلّق الأمر بوزارة الخارجية حيث ليس معروفا ما إذا كان الوزير يعرف الفارق بين قطر والبحرين، لكنّ الصحيح أيضا في لبنان من يعرف حقيقة ما يدور في سوريا وعلى أرضها.
من الآن إلى أن تقتنع إيران بأن ليس لديها نموذج يحتذى به تقدّمه إلى محيطها، باستثناء ميليشياتها المذهبية، لا خيار آخر أمام لبنان سوى أن يدافع عن نفسه، ويرفض كلّ المداخل المطلوب منه ولوجها كي يصبح في “محور الممانعة”، أي أن يدور في الفلك الإيراني. خيار المقاومة، مقاومة “حزب الله” وإيران، هو الخيار الوحيد المتاح أمام لبنان واللبنانيين. ما يمكن أن يساعدهم في ذلك أنّ كلّ كلام عن انتصار حققه النظام في سوريا أقرب إلى الوهم من أيّ شيء آخر. كلّ ما في الأمر أن حزب الله يحاول أن يفرض بقوة سلاحه غير الشرعي الموجه إلى صدور اللبنانيين إرادته عليهم.
في النهاية، قبل التكلّم عن انتصار للنظام في سوريا، لينتصر اللبنانيون جميعا للبنان عبر اتباع سياسة لا تقوم على النأي بالنفس فحسب، بل تقوم أيضا على السعي إلى استيعاب ما يدور في المنطقة كلّها. لعلّ استيعاب ما يدور في المنطقة يبدأ عمليا بفهم أن ليس لدى إيران ما تصدّره سوى الغـرائز المذهبـية التي تنشئ ميليشيات تابعة لها، على نسق “الحشد الشعبي” في العراق. تعمل هذه الميليشيات على تمزيق نسيج المجتمعات العربية إربا إربا. ما الذي فعلته إيران حتّى الآن في العراق وسوريا ولبنان واليمن وما سعت إلى تحقيقه في البحرين؟
بعد فهم خطورة المشروع التوسعي الإيراني، وصولا إلى رفض الرضوخ للإملاءات الإيرانية التي تصدر عن “حزب الله”، يمكن لأي لبناني، مهما كان مستوى تفكيره ومعرفته بشؤون المنطقة إدراك لماذا لا معنى لأيّ أخذ ورد مع أيّ مسؤول في النظام السوري، بما في ذلك رئيس النظام ومن يعتبرون أنفسهم وزراء لديه.