لا يشكّ اثنان في أن روسيا حققت إنجازا كبيرا من خلال تنظيمها لدورة كأس العالم لكرة القدم. كانت دورة كأس العالم مناسبة كي تلمّع روسيا صورتها في العالم، وكي يظهر الرئيس فلاديمير بوتين في مظهر رجل الدولة القادر على الاهتمام بأدق التفاصيل الداخلية.
كلّ من ذهبوا إلى روسيا في الفترة الممتدة بين منتصف حزيران – يونيو ومنتصف تمّوز – يوليو، يوم جرت المباراة النهائية بين فرنسا وكرواتيا والتي أسفرت عن فوز فرنسا بالكأس، يجمعون على أن فلاديمير بوتين استطاع تحقيق إنجاز كبير على الصعيد الشخصي.
طوال الشهر الذي استغرقته مباريات كأس العالم، التي كان العالم كله مشدودا إلى روسيا، لم يحصل خطأ، لا في المجال التنظيمي ولا في المجال الأمني. هناك دولة استطاعت أن تكون في مستوى أفضل دول العالم، في مستوى بريطانيا مثلا التي استضافت الدورة الأولمبية صيف العام 2012.
بعد حدث دولي مثل كأس العالم لكرة القدم في 2018، تبيّن بكل بساطة أن لا شيء ينقص روسيا كي تكون في مصاف الدول الراقية القادرة على لعب دور إيجابي على الصعيد الدولي في حال تخلصت من عقدة الدولة العظمى، من عقدة العودة إلى أيّام الاتحاد السوفياتي تحديدا.
في اليوم الذي تلا مباشرة اختتام دورة كأس العالم، توجّه بوتين إلى هلسنكي لعقد قمة مع الرئيس دونالد ترامب الذي أثار في جولته الأوروبية سلسلة من العواصف. كشفت الجولة نظرة أميركية جديدة لكيفية التعاطي مع الحلفاء، إنْ في الإطار الأوروبي أو في إطار حلف شمال الأطلسي.
هناك تعاط أميركي فوقي مع الأطلسيين الذين يعتبر ترامب أنّهم مقصّرون في مجال المساهمة في إقامة قوة عسكرية في مستوى التحديات التي تواجه ما كان يشكل في الماضي، إبّان الحرب الباردة، العمود الفقري للمعسكر الغربي في مواجهة الاتحاد السوفياتي والمنظومة التابعة له.
نجح بوتين في امتحان دورة كأس العالم. هل ينجح في مناوراته السياسية خارج روسيا؟ ما لا مفرّ من الاعتراف به أنّ الرئيس الروسي استطاع في السنوات القليلة الماضية وضع الولايات المتحدة في موقع دفاعي. عرف جيدا كيف التعاطي مع باراك أوباما مستفيدا من نقطة الضعف الأساسية في سياسته الخارجية. كان همّ أوباما محصورا طوال سنوات في كيفية استرضاء إيران. لم يكن يريد إزعاجها بأي شكل وذلك خشية أن تنسحب من المفاوضات في شأن ملفّها النووي.
تسلل بوتين من هذه الثغرة كي يجعل من روسيا اللاعب الأوّل في سوريا. حقق ما لم يستطع أي زعيم روسي تحقيقه وذلك منذ حلم القياصرة بإيجاد موطئ قدم في المياه الدافئة أي في البحر المتوسط. صحيح أن روسيا كانت تمتلك، منذ أيّام الاتحاد السوفياتي، تسهيلات في ميناء طرطوس السوري، لكنّ الصحيح أيضا أنّها لم تكن في أيّ يوم اللاعب الأساسي في سوريا. كان حافظ الأسد يعرف في كلّ وقت كيف يوازن بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.
دخل جيشه لبنان في العام 1976 بضوء أخضر أميركي وإسرائيلي “من أجل وضع اليد على مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية”. قبل ذلك، كان اتفاق فك الاشتباك مع إسرائيل عام 1974 بوساطة هنري كيسينجر ولا أحد غيره. أمّا وضع لبنان كله فتحت الوصاية السورية، بما في ذلك قصر بعبدا في خريف 1990، فجاء بقرار أميركي مكافأة لحافظ الأسد على مشاركته إلى جانب التحالف الدولي، على رأسه الولايات المتحدة، في حرب تحرير الكويت.
اتبع بشّار الأسد سياسة مختلفة عن سياسة والده. تقوم هذه السياسة على الذهاب بعيدا في التحالف مع إيران والإعجاب الشديد بـ“حزب الله” وما قام به في الداخل اللبناني. استطاعت إيران إنقاذ نظامه لدى اندلاع الثورة الشعبية في آذار – مارس 2011، لكن نقطة التحول الأساسية كانت في أواخر 2015 عندما استنجدت إيران بروسيا كي يبقى بشّار الأسد في دمشق.
تقف روسيا وراء معظم التحولات التي تشهدها سوريا منذ العام 2015 عندما كانت دمشق مهددة بالفعل وعندما كان الساحل السوري، بما في ذلك معاقل العلويين، على قاب قوسين أو أدنى من السقوط في يد المعارضة.
هل يحقق فلاديمير بوتين اختراقا ذا طابع استراتيجي في قمّة هلسنكي؟ الثابت أنّه وضع الأسس لمثل هذا الاختراق المبني على اتفاق يقوم على بقاء بشار الأسد في دمشق في مقابل تأمين الخروج الهادئ للإيراني من العاصمة السورية ومحيطها ومن مناطق الجنوب. وضع الرئيس الروسي أسسا لهذا الاتفاق مع بنيامين نتنياهو أوّلا، ومع الجانب الأميركي في مرحلة لاحقة. لو لم تكن هناك نقاط اتفاق مع إدارة ترامب، وإنْ عبْرَ إسرائيل، في شأن سوريا، لما كانت الولايات المتحدة اتخذت الموقف المطلوب منها عندما تقدّمت قوات تابعة للنظام السوري من درعا ومن الحدود مع الأردن.
سيتوقف الكثير على مدى جدّية فلاديمير بوتين في تنفيذ المطلوب منه إسرائيليا وأميركيا في سوريا، فضلا بالطبع عن قدرته على ذلك. ليس مصير بشّار الأسد أمرا مهمّا. المهمّ هل يستطيع الروسي إخراج الإيراني من سوريا، وصولا إلى اللحظة التي سيتمكن فيها من القول إن روسيا صارت صاحبة الكلمة الفصل في سوريا، وإن ما حلم به القياصرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، ثمّ قادة الاتحاد السوفياتي، تحوّل إلى حقيقة؟
في النهاية، سيتبين أن مرحلة ما بعد قمّة هلسنكي امتحان لبوتين وترامب في آن. الامتحان لبوتين في سوريا حيث سيكون على الرئيس الروسي لعب دور إيجابي يذكّر بنجاحه الداخلي، خصوصا في الإعداد لدورة كأس العالم. إذا نجح بوتين في سوريا، أي في إخراج إيران منها، سيكشف أنّه رجل قادر على تحمل مسؤولياته وليس مجرد رئيس دولة تمتلك سلاحا جويا قادرا على إلحاق تدمير كبير بالمدن والبلدات السورية خدمة لنظام أقلوي يشنّ حربا على شعبه.
أما بالنسبة إلى ترامب، فإن سوريا ستكشف أيضا هل هو أفضل من سلفه باراك أوباما، أم أنّه سيكون مجرد دمية في يد الرئيس الروسي الذي أقنعه في مثل هذه الأيام من العام 2013 بغض النظر عن استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي في سياق حربه على السوريين.
الأهمّ من ذلك كله، ستكشف قمة هلسنكي هل يمتلك دونالد ترامب سياسة متكاملة بدأت بالانسحاب من الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني. كان الانسحاب من هذا الاتفاق ضرورة ولكن ما تتمة ذلك؟ ما هي الخطوة الأخرى التي ستقدم عليها إدارة ترامب لتأكيد أنّها إدارة جدّية ولا تتميز عن إدارة أوباما سوى بالكلام الكبير. لا تتمة منطقية للانسحاب من الاتفاق مع إيران خارج الإطار السوري. إمّا تنسحب إيران من سوريا وإما لا تنسحب. كلّ ما تبقى تفاصيل وسقوط في الامتحان لكلّ من بوتين وترامب.
إذا كان من رغبة حقيقية في تقطيع أذرع إيران في المنطقة في سياق الحرب على الإرهاب والتطرف بكل أشكالهما، الإرهاب السنّي والإرهاب الشيعي، تبقى سوريا، ولا أرض أخرى غيرها، نقطة البداية.