أن يقترب “الحشد الشعبي” من الحدود العراقية-السورية وتصبح لديه نقاط ارتكاز على طول الحدود تطور في غاية الأهمّية على صعيد ما يدور في داخل سوريا. يعود ذلك إلى أن الميليشيات التي يتألف منها هذا “الحشد” تابعة لأحزاب مذهبية عراقية تسيطر عليها إيران كليّا. هل تتمكن إيران من ربط نفسها مجدّدا على نحو مباشر بأرض سوريا بعدما أصبحت تسيطر على مناطق محدّدة في العراق؟
هذا على الأقلّ ما حاولت طهران تأكيده عندما وزعت صورا لقاسم سليماني قائد “فيلق القدس” عند الحدود مع سوريا. ظهر سليماني في الصورة مع مجموعة من قادة الميليشيات المذهبية العراقية التي يربط بينها الولاء الكامل لـ”الحرس الثوري” ولـ”الوليّ الفقيه”في طهران. لا يشرّف أيّا من قادة الميليشيات هذه أنّه قاتل إلى جانب الإيرانيين، أي ضدّ بلده، في الحرب العراقية-الإيرانية بين العامين 1980 و1988.
عندما اندلعت الثورة السورية في العام 2011، حصل تغيير في الموقف العراقي بضغط من إيران. كان نوري المالكي رئيسا للوزراء في بغداد وكان يشكو من الإرهاب الذي يصدّره النظام السوري إلى العراق. معروف أن هذه التجارة، تجارة تصدير الإرهاب، هي من اختصاص النظام السوري، وقد ورثها الابن عن الأب. فجأة، انتقل المالكي من معترض على تصرّفات بشّار الأسد وسلوكه ومطالب بمحاكمته أمام هيئة دولية، إلى داعم لنظامه بالسلاح والمال والميليشيات.
لم يكن في استطاعة رئيس الوزراء العراقي وقتذاك رفض أيّ طلب لإيران التي تعتبر الطريق البرّي إلى سوريا أمرا حيويا بالنسبة إليها ولمشروعها التوسّعي. كلّ ما يمكن قوله في ضوء هذا التطوّر الخطير أن إيران تريد تأكيد أنّها لاعب أساسي في سوريا. تريد عبر الصورة التي ظهر فيها سليماني تكريس استعادتها لخط برّي، بقي مقطوعا لفترة طويلة، يصل الأراضي الإيرانية بشاطئ المتوسط السوري واللبناني، عبر الأراضي العراقية.
ترفع إيران هذه الأيام عبر أدواتها شعار “طريق القدس”. تمرّ هذه الطريق بالنسبة إليها بالحدود العراقية-السورية. من دون الوجود الإيراني على هذه الحدود، عبر “الحشد الشعبي” أو غيره، لن يكون تحرير قريب للقدس!
بعيدا عن المزاح، من نوع أن إيران تريد فعلا تحرير القدس، فيما هدفها الحقيقي المتاجرة بالفلسطينيين وقضيّتهم والمزايدة على العرب عموما، هناك خلط للأوراق في سوريا. يعود خلط الأوراق إلى أن الولايات المتحدة صارت موجودة على الأرض السورية وتحوّلت من مراقب، في عهد باراك أوباما، إلى لاعب في عهد دونالد ترامب. لم يعد سرّا أن قوات أميركية تستخدم مطارات في الداخل السوري شمال دير الزور (الرميلان) وأن قوات من المعارضة دخلت قبل أيّام قليلة إلى الرقّة التي يسيطر عليها “داعش”. دخلت المعارضة السورية إلى الرقّة بغطاء جوي أميركي.
لم يعد سرّا أيضا أنّ الأميركيين في التنف أيضا وهي نقطة داخل الأراضي السورية قريبة من حدود الأردن والعراق. عندما اقتربت ميليشيات تابعة لإيران تعمل في الداخل السوري من التنف في الثامن عشر من الشهر الماضي، قصفها الأميركيون الذين أبلغوا كلّ من يعنيه الأمر أن هناك مناطق محظورة على هذه الميليشيات التي عليها البقاء بعيدة عن حدود الأردن.
لن يكون الوجود الإيراني في البادية السورية، المسمّاة بادية الشام، نزهة. كان ملفتا أن الأميركيين يصرّون على استبعاد أيّ وجود للميليشيات التي تأخذ أوامرها من طهران في تلك المنطقة. إيران نفسها تعرف أن نجاح مشروعها المسمّى “طريق القدس” سيتوقف في نهاية المطاف على تعاون الأكراد المدعومين بدورهم من الولايات المتحدة معها. وهذا أمر يبدو مستبعدا إلى حدّ كبير، على الرغم من أن بعض الميليشيات الكردية على علاقة قديمة بالنظام السوري.
ما يمكن أن يلعب لمصلحة طهران هو التواطؤ التركي. باتت هناك مصالح مشتركة إيرانية-تركية في سوريا، خصوصا بعد الدعم الأميركي للأكراد الذين تعتبرهم أنقرة عدوّا لدودا وتخشى من أيّ مخطط يصبّ في قيام كيان كردي في الأراضي السورية.
لم تسع الولايات المتحدة إلى طمأنة تركيا، أقلّه إلى الآن، ما ليس معروفا إلى أيّ حدّ ستذهب أنقرة بعيدا في التعاون مع طهران في الموضوع السوري، علما أن ليس سرّا أنها مستعدة لصفقات غريبة عجيبة من نوع تلك التي عقدتها مع روسيا أواخر العام الماضي في شأن حلب. ولكن يبقى السؤال الأهمّ هل مسموح، من وجهة النظر الأميركية، أن يكون وجود إيراني في البادية السورية وعلى طول الحدود العراقية-السورية؟
في كلّ الأحوال، ليس الموقف التركي علامة الاستفهام الوحيدة. هناك سؤال يتعلّق بموقف موسكو والتحرّكات التي يقوم بها الجيش الروسي في الجنوب السوري. فجأة تقدّمت قوات محمولة ترفع العلم الروسي في اتجاه درعا. سبقت ذلك مناورات جويّة روسية-إسرائيلية في الأجواء السورية. أين “طريق القدس” من كلّ ذلك؟
من سيستفيد من خلط الأوراق الذي تشهده سوريا؟ الأكيد أن النظام يسعى إلى الاستفادة وإلى لعب كلّ الأوراق المتوافرة ناسيا لأنّه صار من الماضي. من المفارقات أن بشّار الأسد يسعى حاليا إلى الاستفادة من التقارب الإيراني-التركي، علما أنّ بشّار الأسد يعتبر الإخوان المسلمين الذين يحظون بدعم تركي عدوّه الأول!
ستكون الأسابيع المقبلة حبلى بالأحداث. سيتبيّن قريبا الخيط الأبيض من الخيط الأسود في سوريا. ما سيتبيّن أخيرا هل ستسمح الولايات المتحدة لإيران بإقامة خط برّي داخل الأراضي السورية. من الواضح أنّ هناك تفاؤلا إيرانيا في غير محلّه. ظهر هذا التفاؤل من خلال حسابات إيرانية على “تويتر”. قالت التغريدات التي وردت في تلك الحسابات “إنّ الأرض التي تربط سوريا بإيران تقترب كلّ يوم”. ما هذه “الأرض” التي يتحدث عنها الإيرانيون غير المحافظات ذات الأكثرية السنّية في العراق، وهي محافظات تبقى عصيّة على نظام لا يؤمن سوى بالاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية.
لعلّ أهمّ ما ستكشفه الأسابيع المقبلة طبيعة العلاقة الجديدة بين موسكو وواشنطن وهل من أسّس لصفقة بينهما تؤدي إلى رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن روسيا. في حال حصول ذلك، سيتأكد عمق المأزق الإيراني في سوريا، وهو مأزق يعبّر عن نفسه بنفسه. لم يعد “طريق القدس” يقتصر على غزو بيروت كما حصل في أيّار-مايو من العام 2008، بل صار يمرّ بتدمير كلّ مدينة عربية أو تغيير طبيعة هذه المدينة كما حصل مع بغداد ويحصل مع دمشق بعد تسوية أجزاء من حمص وحماة وحلب بالأرض.