قبل قمة دونالد ترامب - فلاديمير بوتين في هلسنكي، جاء وقت عمل جردة للحسابات في سوريا. من سيبقى من سيرحل في الأشهر القليلة المقبلة؟ هل يستطيع بوتين تنفيذ المطلوب منه إسرائيليا واميركيا في مقابل البقاء في مقعد القيادة في هذا البلد وعمل كلّ ما يريد عمله من دون حسيب او رقيب بعد حصوله على الضوء الأخضر الاسرائيلي؟ ما هو شكل الكيان السوري مستقبلا؟ ماذا سيفعل الاميركيون في المنطقة الواسعة الغنية بالثروات الطبيعية التي اقاموا فيها قواعد لهم شرق الفرات؟
اسئلة كثيرة تفرض نفسها هذه الايام بعضها مرتبط أيضا بتركيا والمناطق الموجودة فيها... وبعضها الآخر بمصير الاكراد وعلاقتهم بالأطراف الأخرى داخل سوريا وخارجها.
في ظل كلّ هذه الأسئلة هناك ثابت واحد. يتمثل الثابت الوحيد في ان على ايران إيجاد طريقة للخروج من سوريا. ليس معروفا كيف سيتمكن الجانب الروسي من اقناعها بان لا خيار آخر امامها سوى الخروج نظرا الى انّ ليس لديها ما تفعله في سوريا. فاذا كان مشروعها يقوم على تغيير طبيعة الشعب السوري وتركيبته الديموغرافية، فان هذا المشروع ولد ميتا. ولد ميتا على الرغم من كلّ الهجرة السورية والجهود التي بذلتها ايران من اجل تدمير المدن السنّية الكبيرة مثل حلب وحمص وحماة وتغيير طبيعة دمشق والمناطق المحيطة بها من زاوية مذهبية بحتة. كان آخر دليل على مدى الإفلاس الايراني في سوريا كلام صدر عن مسؤول عسكري إيراني هو حسين سلامي نائب قائد "الحرس الثوري". قال سلامي بالحرف الواحد: "الجيش الايراني في مرتفعات الجولان ينتظر التعليمات لإزالة إسرائيل من الوجود".
لا يمكن ان يصدر مثل هذا الكلام عن مسؤول عسكري او مدني في دولة عاقلة، خصوصا ان الجيش الايراني ليس في الجولان المحظور عليه الاقتراب منه. كلّ ما في الامر ان النظام السوري البس إيرانيين وعناصر من الميليشيات اللبنانية والعراقية التابعة لـ"الحرس الثوري" ثياب الجيش النظامي وذلك كي يتمكن من التقدم في اتجاه درعا والحدود الأردنية. لا تزال ثمّة حاجة الى الايرانيين وتوابعهم في مناطق معيّنة في ظلّ معاناة الالوية التي لا تزال تدين بالولاء للنظام من نقص في العنصر البشري.
بعيدا عن الكلام الفارغ من النوع الذي يصدر عن شخص مثل نائب قائد "الحرس الثوري" الايراني، هناك واقع لا مفرّ من التعاطي معه. يقول هذا الواقع انّ المشكلة الأساسية التي تعاني منها ايران في سوريا عائدة الى انّها راهنت على شخص بشّار الأسد وعدد من المحيطين به في الاجهزة الأمنية. بات مستقبل وجودها في سوريا مرتبطا بشخص بشّار الأسد الذي لا مستقبل له. عفوا، لديه مستقبل في حال نفّذ المطلوب منه إسرائيليا. وهذا يعني في طبيعة الحال استكمال المهمّة التي وجد النظام الذي اسسه والده من اجلها.
في أساس هذه المهمّة الوصول الى مرحلة لا يعود مطروحا فيها أي بحث في استعادة الجولان. عندما تعلن إسرائيل بصراحة ووقاحة انّها تريد عودة الجيش السوري التابع للنظام الى خط وقف النار في الجولان تنفيذا لاتفاق فكّ الاشتباك الموقع في العام 1974 برعاية هنري كيسينجر، فهي تقول انّه آن أوان ان تقبض ثمن بقاء بشّار الأسد في دمشق. يبدو الثمن واضحا كلّ الوضوح. بات على سوريا ان تنسى شيئا اسمه الجولان المحتلّ.
في لحظة معيّنة، سيكون على بشّار الأسد الاختيار بين إسرائيل وايران. الطرفان وفرا الحماية له. الدليل على ذلك انّه لا يزال في دمشق. لكنّ الحماية الايرانية لم تعد كافية في مرحلة معيّنة. اجبر ذلك طهران على الاستعانة بالوجود العسكري الروسي الذي لعب دوره ابتداء من أواخر أيلول – سبتمبر 2015 في إبقاء رأس النظام في العاصمة وان كان ذلك بالتنسيق مع الاسرائيلي.
من الواضح ان الخيارين الروسي والإسرائيلي هما خيار واحد. عنوان هذا الخيار الخروج الايراني. مثل هذا الخروج سيحرم رئيس النظام السوري حتما من ورقة يعتقد انّها مهمّة هي ايران والميليشيات التابعة لها على رأسها "حزب الله" الذي ارتبط تاريخيا بعلاقة اكثر من مميزة مع بشار الأسد. هل في جعبة فلاديمير بوتين ما يقنع به الايراني والإسرائيلي بإيجاد تفاهم بينهما انطلاقا مما يدور في سوريا؟ من الصعب الإجابة بنعم على مثل هذا السؤال، خصوصا انّ تجارب الماضي القريب تؤكد ان الإسرائيلي، ليس في وارد القبول بان تكون لإيران قواعد في الأراضي السورية بما في ذلك الأراضي التي تؤمن لها ارتباطا مباشرا بـ"المربعات الأمنية" لـ"حزب الله" في لبنان.
هناك في الوقت الحاضر تفاهم في العمق بين روسيا وإسرائيل على استمرار الغارات على المواقع الايرانية في سوريا. ليس معروفا الى متى يمكن لإيران تحمل مثل هذا النوع من الغارات التي تستهدف أيضا شحنات السلاح التي تفرّغ في مطار دمشق.
لن يكون سهلا على ايران اتخاذ قرار يقضي بالخروج من سوريا، خصوصا ان مثل هذا القرارات ستكون له انعكاسات في غاية السلبية على نظام يعاني من مشاكل داخلية كبيرة. تبدو هذه المشاكل مرشّحة للتفاقم مع الوقت، خصوصا في ظلّ الرغبة الاميركية في فرض عقوبات جديدة على نظام ولاية الفقيه الذي اسسه آية الله الخميني.
لم يعد خافيا على احد ان الإدارة الاميركية لزّمت سوريا لفلاديمير بوتين وهناك كلام عن رفع العقوبات عن روسيا اذا نجحت في اخراج الايراني من سوريا. لو لم يكن الامر كذلك، لكانت دعمت المعارضة في درعا ووفرت لعناصرها السلاح الذي تقاوم به تقدّم القوات المحسوبة على النظام من درعا والمنطقة المحيطة بها ومن معبر نصيب على الحدود الأردنية. كان كافيا ان تظهر صواريخ مضادة للطائرات مع المعارضة كي يفكّر الروسي مرتين قبل ان يشنّ أي غارة على درعا والقرى القريبة منها. ما تعنيه كلّ هذه التطورات المتسارعة، بما في ذلك الموقف الأردني المؤيد لما يجري في الجنوب السوري، انّ الازمة السورية دخلت مرحلة جديدة.
الأكيد ان الخروج من سوريا ليس خيارا إيرانيا. الأكيد أيضا ان مهمّة فلاديمير بوتين في اقناع ايران بالتخلي عن احلامها السورية لن تكون سهلة. ما هو اكيد اكثر من ذلك كلّه ان بشّار الأسد بات يدرك الثمن الواجب دفعه من اجل ان يبقى، ولو لفترة زمنية معيّنة في دمشق. هذا الثمن هو الجولان الذي صار عليه التخلي عنه مثلما تخلّى في الماضي عن لواء الاسكندرون. كان الجولان ارضا "محتلة" وكان لواء الاسكندرون يسمّى "اللواء السليب".
لكلّ شيء ثمنه في هذه الحياة. هل تدرك ايران انّها في مأزق عميق وان عليها بدورها ان تساهم هذه المرّة في مرحلة حماية النظام السوري الذي بات يعرف انّ وجوده مرتبط بالرغبة الإسرائيلية في العودة الى اتفاق فكّ الاشتباك للعام 1974 مع ما يعنيه من سنوات طويلة أخرى للوجود الإسرائيلي، القابل لان يكون دائما، في الجولان وليس بشيء آخر غير ذلك؟