كم يشبه اليوم البارحة، كم يشبه الوضع السوري الآن ما مرّ به العراق. لم تقدم الولايات المتحدة الأميركية على احتلال العراق وإسقاط النظام فيه إلا بعدما تأكدت من أنّه لن تقوم للعراق قيامة في يوم من الأيّام. تسير سوريا هذه الأيّام، خصوصا في ضوء ما نشهده في حلب، على خطى العراق. هناك عملية تفتيـت للبلد وللمجتمع تنفّذ على مهل، وذلك من أجل ضمان الانتهاء من البلد.
بعد احتلال العراق للكويت في مثل هذه الأيّام من صيف العام ألف وتسعمئة وتسعين، انتظرت الولايات المتحدة ثلاثة عشر عاما قبل دخول بغداد في عهد جورج بوش الابن. فعلت ذلك من دون حسابات من أي نوع تأخذ في الاعتبار أن الرابح الوحيد من الحرب على العراق سيكون إيران. إنها الجار الذي يمتلك حسابا قديما يريد تصفيته مع النظام العراقي ومع العراق نفسه في الوقت ذاته.
كان في استطاعة الجيش الأميركي متابعة رحلته إلى بغداد لدى تحرير الكويت في شباط ـ فبراير من العام ألف وتسعمئة وواحد وتسعين. امتلك جورج بوش الأب، الذي كانت لديه مجموعة من المستشارين في مستوى جيمس بايكر، وزير الخارجية وقتذاك، والجنرال برنت سكوكروفت مستشار الأمن القومي، ما يكفي من الحكمة والفهم لتعقيدات الشرق الأوسط لوقف تقدّم القوات الأميركية عند الحدود الدولية المعترف بها بين العراق والكويت.
المضحك المبكي في أيّامنا هذه أمران. الأوّل أن النظام السوري لا يريد أن يتعلّم شيئا من التجربة العراقية. هل هي المدرسة البعثية ذاتها التي تعتبر أن لا مكان في العالم إلّا لسياسة إلغاء الآخر التي لم يعثر النظـام السـوري على بديـل منها، حتّى عنـدما يكون الأمر متعلّقا بالشعب السوري؟
أمّا الأمر الثاني المضحك المبكي، فهو أنّ الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما لن تكون في حاجة إلى تدخل مباشر ولعملية عسكرية كبيرة من أجل الانتهاء من سوريا، تماما كما انتهت من العراق. هناك نظام في دمشق ينفّذ كل ما هو مطلوب منه في مجال القضاء على سوريا عن طريق تفتيتها بطريقة منهجية. لو لم يكن الأمر كذلك، لما استعان النظام في حربه على الشعب السوري بإيران، ثم بروسيا التي تنسق بدورهـا مع إسرائيل في شـأن كلّ خطـوة تقدم عليها في الأراضي السورية.
تأتي معركة حلب الدائرة حاليا لتؤكد أن البعث السوري لم يتعلّم شيئا من تجربة البعث العراقي. تفوّق بشّار الأسد على صدّام حسين في العجز عن فهم التعقيـدات الإقليمية والدولية. لكنّ ما يجمع بينه وبين صدّام أن كليهما يخدم إيران على طريقته. الفارق الوحيد أن الرئيس العراقي السابق كان يفعل ذلك عـن غيـر قصد. كـان يخـدم إيران بسبـب سذاجته السياسيـة التي ليسـت بعدها سذاجة. أمّا بشار، فإنّه يسير في هذا الاتجاه عن سابق تصـور وتصميم من منطلق إيمانه بحلف الأقليات الذي سيعود بكل نوع من المصائب على المنطقة ودولها.
كيف يمكن لرئيس النظام السوري تصوّر أنّه ستكون في استطاعته في يوم من الأيّام العودة إلى حكم البلد بعد كلّ ما ارتكبه من جرائم؟ كيف يمكن أن يعود إلى حلب يوما متجاهلا أن في المدينة ومحيطها ما يزيد على خمسة وأربعين ألف مسلّح، فضلا عن أن حلب هي بمثابة منطقة نفوذ تركية. سقوط المدينة يعني سقوط تركيا التي لا تزال تعالج نتائج المحاولة الانقلابية التي استهدفت رئيسها رجب طيّب أردوغان.
كلّ ما يستطيعه بشّار الأسد هو لعب الدور المرسوم له في مجال تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ ليس إلّا. لن يستطيع الانتصار يوما في حلب، وفي غير حلب. كلّ ما يستطيعه هو خدمة المشروع الإيراني والمشـروع الروسي والمشـروع الإسرائيلي، في وقت تجد تركيا نفسها في وضـع لا تحسد عليه بعدما تبيّن أن معالجة وضع المؤسسة العسكرية ليست مسألة سهلة بأي شكل.
في حال كان من مغزى لمعركة حلب، فهذا المغزى يتمثّل في أنّ ليست لدى أي طرف القدرة على تحقيـق انتصار حاسم في سوريا. كلّ ما هناك أنّ القوى التي تعمـل على تقسيـم سـوريا وتفتيتهـا والانتهـاء منها ستخرج منتصرة. سيكـون هناك انتصار كبير على الشعب السوري. أليس مثل هذا النوع من الانتصارات ما تبتغيه جماعة “المقاومة” و”الممانعة” التي وضعت نفسها، في كلّ وقت، في خدمة إسرائيل ومشروع حلف الأقلّيات الذي لم تتردد يوما في دعمه.
رفعت جماعة “المقاومة” و“الممانعة” في الماضي شعار التصدي للمشروع الأميركي في المنطقة. لا يتردد الأمين العام لـ“حزب الله” السيد حسن نصرالله في ترديد مقولة أنّ أميركا هي الخطر على المنطقة. هل لدى أميركا بالفعل مشروعها للمنطقة، أم كلّ ما في الأمر أن التحالف الإيراني ـ الروسي ـ الإسرائيلي يستفيد من غياب مثل هذا المشروع لتقاسم سوريا لا أكثر ولا أقلّ… بعدما فعل كلّ ما فعله بلبنان؟
فعل هذا التحالف فعله الذي بدأت تظهر نتائجه الآن على الأرض اللبنانية، وذلك منذ ملء إيران الفراغ العسكري الذي خلفه الانسحاب العسكري السوري بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري قبل أحد عشر سنة وبضعة أشهر، ومنذ حصول ذلك التواطؤ مع إسرائيل كي تنتهي حرب صيف العام ألفين وستة بانتصار ساحق ماحق على لبنان واللبنانيين. دمّرت إسرائيل، وقتذاك، نحو ثلث البنية التحتية اللبنانية وذلك كي يتمكن “حزب الله” من نشر المزيد من الفقر والبؤس بين اللبنانيين.
بعد تلك الحرب، رفع حسن نصرالله علامة النصر وهو يقف على ما بات أقرب إلى جثة أكثر من أيّ شيء آخر… أي على ما بقي من مؤسسات الدولة اللبنانية التي صارت بفضله وبفضل أولياء أمره في طهران، جمهورية من دون رأس لا أكثر ولا أقلّ!
المؤسف أن مصيرا أسوأ بكثير من مصير لبنان ينتظر سوريا والعراق حيث مهّد البعثان لتدمير كلّ ما يمكن تدميره في البلدين، وصولا إلى ما نشهده هذه الأيام من نفوذ إيراني فيهما، في ظل اعتماد الإدارة الأميركية موقف المتفرّج على مأساتين ذهب ضحيتهما شعبان كانا مؤهلين لدور طليعي في تطوير الشرق الأوسط كلّه، بدل إغراقه في برك الدم…