هناك حدث يفترض ألا يمر مرور الكرام، لا لشيء سوى لأنه يعكس الصيغة الجديدة التي يمكن أن تقوم عليها أي تسوية سياسية في اليمن. هذا الحدث هو انعقاد “مؤتمر حضرموت الجامع” في مدينة المكلا.
انعقد المؤتمر قبل بضعة أيام في مناسبة مرور عام على إخراج “قوات التحالف العربي”، على رأسها القوات السعودية والإماراتية، عناصر “القاعدة” وتنظيمات أخرى متطرّفة من معظم أراضي حضرموت التي تعتبر أكبر محافظات اليمن مساحة ومن بين أكثرها غنى، إنْ على صعيد الثروة الطبيعية أو على صعيد الثروة الإنسانية.
كلّ ما يشير إليه البيان الصادر عن المؤتمر، الذي شاركت فيه معظم القوى الحضرمية، هو الرغبة في إنشاء كيان مستقلّ. لا مطلب بقيام دولة مستقلّة، لكن البيان لا يستبعد ذلك في حال “عدم استعادة حضرموت لحقوقها”. يقول البيان “آن لحضرموت أن تكون قاطرة لمشروعها السياسي وتمكين أبنائها من إدارة شؤونها السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعسكرية والأمنية”.
لا يمكن القول إن البيان يطالب بالاستقلال صراحة، لكنّ الواضح أنّه خطوة في هذا الاتجاه في غياب الاعتراف بالحالة الخاصة التي اسمها محافظة حضرموت التي تمتلك كلّ مقومات الدولة.
عانت حضرموت في السنوات الخمسين الماضية الكثير. عانت من عملية إفقار لها منذ استقلال اليمن الجنوبي في العام 1967 ومن ثم قيام نظام الحزب الواحد الذي ذهب حتّى إلى تأميم مراكب صيّادي الأسماك في المحافظة اليمنية التي تمتلك ثروة سمكية كبيرة.
أسوأ ما أصاب حضرموت في مرحلة حكم الحزب الاشتراكي هو هجرة الطاقات البشرية من المحافظة وانقطاع العلاقة التاريخية بين المحافظة من جهة، والمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي من جهة أخرى.
هناك وجود قديم لأهل حضرموت في السعودية. ليس سرّا أن هناك عائلات من أصل حضرمي تمتلك ثروات ضخمة وقد ارتبط اسمها بالمال والأعمال والتجارة والتعهدات. ارتبط اسم هذه العائلات قبل كلّ شيء بالصدق والأمانة والابتعاد عن التطرُّف، إلا في حالات نادرة مرتبطة بأشخاص معيّنين صاروا خارج عائلاتهم مثل أسامة بن لادن الذي خان تاريخ العائلة. معظم هذه العائلات حصلت على الجنسية السعودية.
فوق ذلك كلّه، هناك انتشار حضرمي في مختلف أنحاء العالم، خصوصا في ماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا. كذلك في دول القرن الأفريقي. هناك بالطبع وجود حضرمي في بقية دول الخليج العربي. لا حاجة بالطبع إلى الحديث عن دور حضرموت في نشر الإسلام في مناطق واسعة وصولا إلى إندونيسيا.
بعد استقلال الجنوب، لعبت شخصيات حضرمية أدوارا على الصعيد السياسي على الرغم من شبه الانقطاع في العلاقات مع السعودية ومعظم أهل الخليج.
تحوّل اليمن الجنوبي إلى نوع من المحميّة السوفييتية. وهذا لم يساعد بأيّ شكل في تحسين الوضع المعيشي للحضارمة الذين زادت أهمّيتهم، كما زاد وزنهم، على الصعيد الداخلي بعد أحداث “الثالث عشر من يناير” 1986 التي انتهت بخروج علي ناصر محمّد من السلطة، ولجوئه إلى صنعاء ثمّ إلى دمشق.
بين 1986 و1990، تاريخ إعلان الوحدة الاندماجية، كان الرجل القوّي في الجنوب حضرميا، كذلك رئيس الدولة. كان علي سالم البيض الأمين العام للحزب الاشتراكي، وأصبح حيدر أبوبكر العطّاس، بعد خروج علي ناصر، رئيسا لهيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى، أي رئيس الدولة. كان العطاس يمتلك صلاحيات محدودة مقارنة مع الأمين العام للحزب الحاكم.
في كلّ الأحوال، كان البيض من لعب دورا أساسيا في تحقيق الوحدة الاندماجية. جرّ رفاقه إليها جرّا في مرحلة انهار فيها الاتحاد السوفييتي. وجرّهم بعدها إلى الانفصال بعد دخوله في خلاف عميق مع علي عبدالله صالح.
انكفأ البيض إلى عدن منذ العام 1993. وعندما زاد الضغط عليه إثر اندلاع حرب ربيع وصيف العام 1994، انتقل زعيم الحزب الاشتراكي اليمني إلى حضرموت التي كانت حصنه الأخير والتي ما لبثت دفاعاتها أن انهارت فجأة مع مقتل صالح أبوبكر بن حسينون، وهو عسكري أصلا أصبح لاحقا وزيرا للنفط، في إحدى المواجهات العسكرية.
بعيد اندلاع حرب الانفصال في ربيع 1994، وهي حرب انتهت في شهر تموز – يوليو، بدخول القوات الموالية لعلي عبدالله صالح إلى عدن، التقيتُ في لندن إحدى قادة الحزب الاشتراكي. ولما سألته كيف يمكن لعلي سالم البيض القيام بمغامرة من هذا النوع؟ أجاب القيادي الاشتراكي، وهو من يافع القريبة من عدن، أن البيض حضرمي قبل أيّ شيء آخر. أضاف إنّه ينتمي إلى محافظة ذات أهمية إستراتيجية كبيرة وتمتلك، على خلاف بقية المحافظات اليمنية، ثروتي الماء والنفط. زاد أن زعيم الحزب الاشتراكي لم يعد يأخذ أحدا في الاعتبار كونه يدرك أهمّية حضرموت والقدرة على إقامة دولة مستقلّة فيها. هذا القيادي الاشتراكي، مازال حيّا يرزق، وكان شاهدا أيضا على ما لحق من ظلم بأهل حضرموت في مرحلة ما بعد انتهاء حرب 1994 وانتقال علي سالم البيض للإقامة في سلطنة عُمان سنوات طويلة.
شهدت مرحلة ما بعد 1994 محاولات لتغيير الوضع نحو الأفضل في حضرموت، خصوصا بعد توقيع اتفاق الحدود بين السعودية واليمن في حزيران – يونيو من العام 2000. طرأ تطور كبير على الوضع في حضرموت، خصوصا في المكلا، بعدما قرر كبار التجار الحضارمة الاستثمار في بلدهم الأصلي.
تغيّرت طبيعة العاصمة التي ظهرت فيها للمرّة الأولى منذ فترة طويلة بيوت فخمة وشوارع جديدة. لكنّ هذه المحاولات اصطدمت بحاجزين. الأوّل جشع مجموعة من الضباط المحسوبين على علي عبدالله صالح، والآخر سعي حزب التجمّع اليمني للإصلاح الذي يمثّل الإخوان المسلمين إلى تغيير طبيعة المجتمع الحضرمي، وهو مجتمع متديّن، لكنّه أبعد ما يكون عن كلّ أشكال التطرّف.
لم يكن علي عبدالله صالح قادرا على وضع حدّ لتصرّفات ضباط معينين، معظمهم من منطقته. كان هؤلاء الضباط لا يترددون في وضع يدهم على أراض معيّنة في المحافظة، وذلك على الرغم من تعيينه محافظا معروفا بنظافة كفّه هو عبدالقادر هلال (قتل العام الماضي في صنعاء)، ما لبث أن أصبح وزيرا للإدارة المحلية قبل أن يقرر الذهاب إلى منزله.
بعد مرحلة عانوا منها من جشع ضباط شماليين ورغبة الإخوان المسلمين في اختراق المحافظة ومجتمعها، وجد أهل حضرموت، في ظل حال الانهيار التي يعاني منها اليمن أن ليس أمامهم هذه الأيام سوى أخذ زمام الأمور بيدهم.
ما فعلوه من خلال “مؤتمر حضرموت الجامع” هو إعداد المحافظة كي تكون مستعدة للمرحلة التي يبدو اليمن مقبلا عليها. إنّها مرحلة اليمن الجديد. هل من يتذكّر أن هناك “الدولة الكثيرية الأولى” و”الدولة الكثيرية الثانية” في حضرموت وأنّه كانت لهذه الدولة طوابع خاصة بها؟