أن يتوجّه المواطنون في المغرب إلى صناديق الاقتراع يوم الجمعة المقبل، دليل على نجاح المملكة في وضع نفسها على خارطة الدول الآمنة في منطقة شمال أفريقيا المضطربة والعالم من جهة، ومتابعة السير في الخط الإصلاحي الذي وضع أسسه الملك محمد السادس من جهة أخرى.
ثمة ملاحظات يمكن أن تبدو مفيدة على هامش الانتخابات التشريعية التي يتنافس فيها نحو ثلاثين حزبا على مقاعد مجلس النوّاب. الملاحظة الأولى أنّ كل كلام عن تدخّل القصر الملكي في الانتخابات لا علاقة له بالواقع.
هناك أحزاب مقصّرة، على كلّ صعيد، تطلق مثل هذا النوع من الإشاعات وذلك بهدف التغطية على فشلها بشكل مسبق. تفعل ذلك في بلد قال فيه العاهل المغربي صراحة في خطاب ألقاه في أواخر تمّوز ـ يوليو الماضي في مناسبة “عيد العرش” أنه على مسافة واحدة من الجميع، من جميع الأحزاب ومن جميع المغاربة، وأن “المغرب حزبي الوحيد”. هناك من يريد أن يفهم معنى هذا الكلام وهناك من يريد الهرب من الواقع. هذا كلّ ما في الأمر.
الملاحظة الأخرى، التي يبدو مفيدا التوقّف عندها، أنّ الدستور الجديد الذي أقرّه المواطنون في استفتاء شعبي في العام 2011، نجح إلى حد كبير في رفع مستوى الخطاب السياسي في الغرب. فلدى قراءة البرامج التي قدّمتها مختلف الأحزاب للناخبين، نجد أن هناك محاولة جدّية لإقناع المواطن المغربي بفائدة دعم هذا الحزب أو ذاك.
بكلام أوضح، هناك سعي إلى اعتماد لغة الأرقام بديلا من الشعارات الفارغة التي تستخدم غالبا في تغطية وعود وهمية لم تعد تنطلي في أي شكل على المواطن العادي. كانت الإصلاحات التي تضمّنها دستور 2011 حافزا كي يرتفع مستوى الأداء الحزبي، نسبيا طبعا. كلّ ما يمكن قوله الآن أن الأحزاب المغربية، في معظمها طبعا، عملت من أجل أن تكون في مستوى التطورات السياسية التي يشهدها البلد. فالجميع يتحدّث عن نسبة النمو للاقتصاد وكيف تحقيق نسبة معقولة بعد تراجع طرأ على الاقتصاد المغربي هذه السنة وفي 2015 بسبب موجة الجفاف وعوامل أخرى، من دون أن يؤدي ذلك إلى أي تباطؤ يذكر في تنفيذ المشاريع الكبيرة. إنّها المشاريع المرتبطة بالبنية التحتية وإعداد المغرب للعب دور أكبر في مجالات التكنولوجيا الحديثة والطاقة الشمسية والصناعات التحويلية وذلك في ضوء التوجه المدروس للمملكة إلى الفضائين الأفريقي والأوروبي.
ثمّة ملاحظة مهمّة أيضا لا يمكن تجاهلها. تتمثل هذه الملاحظة في النقاش الذي محوره التوجه الديني في مجتمع مؤمن مثل المجتمع المغربي. هناك دعوة واضحة من كلّ الأحزاب إلى الابتعاد عن التطرف واعتماد الوسطية. حتّى حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء الحالي عبدالإله بنكيران بات يصرّ على أنّه ليس جزءا من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين. يصر قادة هذا الحزب على خطاب ديني معتدل وذلك كي يضمنوا بقاء الحزب في المرتبة الأولى بعد إعلان النتائج، مع ما يعنيه ذلك من عودة بنكيران إلى موقع رئيس الوزراء.
اعتمد “العدالة والتنمية” خطابا سياسيا معتدلا بعدما وجد أنّ البرنامج الذي طرحه “حزب الأصالة والمعاصرة” الذي يتزعمه إلياس العمّاري حقّق اختراقات في أماكن عدة بفضل خطاب سياسي يعتمد أوّل ما يعتمد على لغة الأرقام وضرورة عدم التستر بالدين. ففي مدينة مثل فاس استطاع “العدالة والتنمية” تحقيق انتصار كبير في الانتخابات المحلية العام الماضي، بات “الأصالة والمعاصرة” عاملا لا يمكن تجاهله في هذه المدينة التي كانت في الماضي معقل “حزب الاستقلال” العريق… هذا الحزب الذي ليس معروفا هل ستعيد إليه الانتخابات المقبلة الاعتبار على الصعيد الوطني وليس في فاس فقط.
تكشف الحملة الانتخابية في المغرب وجود كلّ التيارات السياسية في بلد واحد، بما في ذلك التيارات اليسارية التي تجاوزها الزمن. كلّ حزب يطرح برنامجه الانتخابي. لم يكن ذلك ممكنا من دون الاستقرار السياسي والأمني الذي أمّنه محمّد السادس الذي أخذ على عاتقه القيام بتلك النقلة النوعية المتمثلة في دستور 2011 الذي يضمن المزيد من المشاركة الشعبية في الحياة السياسية والاقتصادية، إضافة بالطبع إلى ضمان لحريات المواطنين وتعزيز لحقوق المرأة والعمل من أجل نشر ثقافة تقوم على التسامح والاعتراف بالآخر. وهذا ما يفسّر صدور تلك القوانين التي تؤمن حقوق اللاجئين ومعظمهم من الأفارقة.
أيّا تكن نتيجة الانتخابات المغربية، ستكون هناك حكومة ائتلافية. لا يمكن التكهّن بشكل هذه الحكومة، ذلك أن الأمر يعود إلى مفاوضات شاقة بين الأحزاب التي ستكون قادرة على الفوز بمقاعد نيابة. الشيء الأكيد أن ليس في استطاعة أي حزب إحراز أكثرية نيابية تسمح له بتشكيل الحكومة من دون التحالف مع آخرين. كذلك، أكثر من أكيد أن رئيس الحزب الذي سيحصل على أكبر عدد من النواب سيكون رئيس الوزراء المقبل. هل يعود بنكيران رئيسا للوزراء أم لا؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوّة من الآن، علما أن مؤشرات كثيرة توحي بذلك.
ما قد يكون أهمّ من ذلك كلّه أنّ المجلس النيابي الجديد، بغض النظر عن الفائز في الانتخابات، سيكون ظاهرة صحّية نظرا إلى أنّه ستكون فيه معارضة وموالاة تحت مبدأ المحاسبة المتبادلة. فإذا أخذنا في الاعتبار البرنامج السياسي لـ“الأصالة والمعاصرة”، فإنّ هذا الحزب سيمارس دورا جدّيا في مناقشة كلّ قرار حكومي… هذا إذا لم تحدث مفاجأة كبيرة تنتهي بوصول العماري إلى موقع رئيس الوزراء.
كلّ ما يمكن قوله في نهاية المطاف أنّ الإصلاحات التي باشرها محمّد السادس تؤسس لحياة حزبية وبرلمانية متطورة. لا يزال المغرب، على الرغم من التاريخ القديم لعدد لا بأس به من أحزابه، في بداية طريق طويل تجعل من الممكن التساؤل في ضوء التجربة الانتخابية الثانية منذ إقرار دستور 2011، هل ارتقت الأحزاب المغربية إلى مستوى الإصلاحات التي شهدها البلد؟
يصحّ طرح هذا السؤال لسبب في غاية البساطة عائد أساسا إلى أنّ العاهل المغربي يثير دائما مسائل في غاية الأهمية. على رأس هذه المسائل دور الإسلام في المغرب وفي محيطه الأفريقي، والحرب على الإرهاب والتطرّف، ورفع مستوى التعليم من دون الخوف من عقدة اللغات الأجنبية. يحصل ذلك كلّه في بلد وجد مكانه في محيطه والعالم، بلد لا مشكلة لديه في التعاطي من الند للند لا مع الولايات المتحدة وسياساتها المتذبذبة، عندما يتعلق الأمر بحقوقه الوطنية مثل قضية الصحراء المغربية، ولا مع أوروبا التي تمرّ بحال من الضياع على غير صعيد وفي أكثر من مكان…