المشكلة الحقيقية بكل بساطة تكمن في أن ليس في بغداد من يمكن أن يدفع في اتجاه عملية نقد للذات. ليس هناك من يمتلك شجاعة تسمح له بالإقدام على مثل هذه الخطوة. في منطقة كلّ ما فيها يتغيّر، بما في ذلك خرائط الدول ومواقعها على خارطة التوازنات العالمية، مثل العلاقة المستقبلية بين تركيا وحلف شمال الأطلسي، يبدو أكثر من طبيعي أن يبحث الأكراد عن مستقبل مختلف لهم.
في ظلّ هذه المعطيات، التي في مقدّمتها الزلزال العراقي المستمرّ، يأتي الاستفتاء المقرر في الخامس والعشرين من أيلول-سبتمبر الجاري، وهو حدث إقليمي أقلّ ما يمكن أن يوصف به أنّه ذو أهمّية وطابع تاريخيين.
في النهاية من يستطيع تجاهل أن العراق في العام 2017 لم يعد قادرا على أن يحافظ على وحدة أراضيه؟ من يستطيع تجاهل أنّ سوريا صارت مناطق نفوذ لخمس قوى عالمية وإقليمية هي أميركا وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل وأنّ مستقبلها في مهبّ الريح؟
لم يعد هناك شيء اسمه وحدة العراق بعد خطيئة تحول الحكم في بغداد إلى حكم مذهبي بدعم أميركي وإيراني في آن. ففي مؤتمر المعارضة العراقية الذي انعقد في لندن في كانون الأوّل-ديسمبر 2002، برعاية أميركية-إيرانية، صدر بيان تحدّث عن “الأكثرية الشيعية في العراق” وعن أن العراق سيكون دولة “فيدرالية”.
كانت “الفيدرالية” كلمة السرّ التي أقنعت الأكراد بحضور مؤتمر لندن. كانت عبارة “الأكثرية الشيعية” التي جعلت إيران ترعى مع الولايات المتحدة، أي مع “الشيطان الأكبر” مؤتمر المعارضة. هناك عقد غير معلن يجمع بين الذين شاركوا، كلّ على طريقته وأسلوبه، في الحرب التي شنتها الولايات المتحدة من أجل التخلّص من نظام صدّام حسين.
حصلت إيران على ما تريده. قام في بغداد نظام مذهبي. لم يعد سرّا أن عماد النظام صار مع مرور الوقت “الحشد الشعبي” الذي يضمّ مجموعة من الميليشيات المذهبية التابعة لأحزاب تابعة بدورها لإيران. ماذا يمكن أن يفعل الأكراد في مثل هذه الحال، خصوصا في ظل حاجة الحكومة المركزية في بغداد إلى كلّ دولار مصدره مبيعات النفط العراقي؟
شيئا فشيئا، فقد الأكراد أيّ نفوذ يذكر في إطار الحكومة المركزية. استطاع جلال الطالباني، رئيس الجمهورية، المحافظة في مرحلة معيّنة على حدّ أدنى من الشراكة في السلطة وذلك في ضوء تاريخ الرجل من جهة والعلاقة التاريخية بينه وبين إيران من جهة أخرى.
في الوقت ذاته، كان وجود هوشيار زيباري في موقع وزير الخارجية يشكل نوعا من الضمانة للوجود الكردي السياسي الكردي في إطار الحكومة. بعد اضطرار الطالباني إلى ترك موقعه بسبب المرض وحلول فؤاد معصوم مكانه ودفع هوشيار زيباري خارج الحكومة، لم يعد من وجود لحصة كردية في السلطة المركزية.
لم يعمل الوقت، إضافة إلى انهيار أسعار النفط، في اتجاه السعي إلى الخروج من الأزمة العميقة التي تواجه العراق والتي انعكست عجزا عن إقامة نظام مدني يكون نموذجا لما يمكن أن تكون عليه دول المنطقة. غرق العراق في المذهبية، خصوصا مع الانسحاب العسكري الأميركي ومع بقاء نوري المالكي في موقع رئيس الوزراء في العام 2010.
سار كلّ شيء في العراق في اتجاه مزيد من الشرذمة، خصوصا بعد تسليم مدينة مثل الموصل إلى “داعش” ثم استعادتها منه في 2017 في ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها غامضة. تبيّن أن الهدف لم يكن استعادة المدينة بمقدار ما أنّ المطلوب تدميرها وتكريس شرعية “الحشد الشعبي” بموافقة رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي لم يستطع أن يكون مختلفا على نحو جذري عن المالكي..
دفع العاملان الإقليمي والداخلي الأكراد إلى الاستفتاء الذي لا يعني بالضرورة إعلان الاستقلال فورا، كما لا يعني أنّ الطريق أمامهم سيكون سهلا، خصوصا في ظل مشكلة ضخمة اسمها كركوك.
لن تكون تسوية في شأن الاستقلال ومستقبل الأكراد من دون كركوك التي تعوم على حقول نفطية. إضافة إلى ذلك، تمتلك كركوك تميّزا واضحا مع وجود حقيقي للتركمان فيها.
ما يشفع للأكراد أنّهم تعلموا من تجارب الماضي القريب، بما في ذلك تجربة منتصف تسعينات القرن الماضي لدى حصول المواجهة المفتوحة بين الحزبين الكرديين الكبيرين، بين أربيل والسليمانية. كانت تجربة إقليم كردستان جدّ معقولة بعد العام 2003.
وفّر الإقليم، شبه المستقل، ملجأ آمنا للعراقيين الهاربين من الأجواء المذهبية التي سادت في بغداد وغير بغداد. لم يجد مسيحيو العراق والإيزيديون، وحتّى السنّة العرب، مكانا عراقيا يلوذون به غير كردستان. لا مفرّ من الاعتراف بأنّ حدا أدنى من الاستقرار تحقّق في كردستان على الرغم من كلّ الشوائب التي يمكن الحديث عنها والتي لا تخفى على أحد.
كان هناك تفكير في كردستان في كيفية إقامة مدن تتسع لجميع العراقيين من كل المناطق والمذاهب والطوائف والقوميات. كان هناك تفكير في إقامة علاقات معقولة مع تركيا وفي إقامة جامعات ومعاهد توفّر مستوى تعليميا يليق بالمواطنين العراقيين ومستقبل أبنائهم. هذا يدلّ على وجود من يفكّر في المستقبل بدل البقاء في أسر الماضي والأحقاد..
لدى الأكراد حجة قويّة تدفعهم إلى التمسّك بالاستفتاء. تُختزل هذه الحجة في أن أحدا لم يقدّم لهم البديل الذي يحفظ لهم حقوقهم كشعب موجود على الخارطة السياسية للمنطقة. إنهّم موجودون في تركيا وإيران وسوريا أيضا. لكنّ السؤال المهمّ الذي سيطرح نفسه في كلّ وقت هو ما حقيقة الموقف الأميركي؟ إلى أي حدّ ستذهب الإدارة الأميركية في دعم حقوق الأكراد الذين أثبتوا أنّهم حلفاء يمكن الاتكال عليهم، خصوصا في الحرب على “داعش” في سوريا والعراق.
في انتظار البديل الذي يمكن أن يقنع الأكراد بتأجيل الاستفتاء، ليس أمامهم سوى المضي إلى النهاية في تنظيمه على الرغم من التهديدات التي يطلقها زعيم هذه الميليشيا المذهبية أو تلك وعلى الرغم من بقاء قضيّة مدينة كركوك عالقة، بل معلّقة.
في انتظار ما سيؤدي إليه المخاضان العراقي والإقليمي، يبدو أن الأكراد يسعون إلى المحافظة على حقوقهم وتثبيتها. الأكيد أن العراق الموحّد لم يعد لديه ما يقدّمه لمواطنيه على الرغم من كل ما يشهده من تطورات تعبّر عنها المواقف الأخيرة لمقتدى الصدر وعمّار الحكيم.
إذا كان من فشل عراقي بعد 2003، فإن هذا الفشل يتمثل في عجز الحكومات العراقية عن تقديم نموذج جاذب لا في داخل البلد ولا خارجه في أيّ مجال من المجالات. في المقابل، كان إقليم كردستان تجربة تغلب فيها الإيجابيات على السلبيات، إلى حدّ ما طبعا. كانت تلك التجربة ولا تزال خطوة على طريق إقامة دول مدنية ليس في وارد أن يطمح إليها أيّ مسؤول أو صاحب موقع في بغداد، مع استثناءات قليلة.
يبقى، كيف سيحلّ الأكراد عقدة كركوك؟ ما الذي سيحصل في المدينة يوم الاستفتاء؟ هل صحيح أن الاستفتاء منطلق لحروب جديدة في العراق.. أم أن في الإمكان الانطلاق منه للقيام بعملية نقد للذات؟
تكمن المشكلة الحقيقية بكل بساطة في أن ليس في بغداد من يمكن أن يدفع في اتجاه عملية نقد للذات. ليس هناك من يمتلك شجاعة تسمح له بالإقدام على مثل هذه الخطوة. عندما يكون هذا الوضع السائد في بغداد، هل في الإمكان توجيه أيّ لوم للأكراد حتّى من أولئك الذين يتذرّعون بالعلاقة القديمة القائمة بينهم وبين إسرائيل!