هل تدهورت الحال السياسية في الولايات المتحدة إلى حدّ صار الخيار بين السيء والأسوأ؟ هذه هي حال القوة العظمى الوحيدة في العالم التي قرّرت التخلي عن مسؤولياتها خارج حدودها بعد انحصار المنافسة على الرئاسة بين هيلاري كلينتون المريضة ودونالد ترامب الذي ليس معروفا هل هو سياسي أم رجل أعمال أم مجرّد متطفل عرف كيف يستغل الفراغ السياسي والفكري الذي تعاني منه الولايات المتحدة.
في أي حال، لو كان أي مرشح للرئاسة الأميركية تعرّض لما تعرّضت له هيلاري كلينتون في الحادي عشر من أيلول ـ سبتمبر من هذا الشهر، لكان سقوطه في الانتخابات صار أكيدا. اهتزت صورة كلينتون التي شوهدت تدخل السيارة الخاصة بها بمساعدة حراسها بعدما انهارت كليا جراء التهاب رئوي يعرف بـ”نيمونيا”.
مازالت كلينتون، التي كانت في نيويورك لإحياء ذكرى العمل الإرهابي الذي تعرّضت له المدينة في العام 2001، متقدمة على المرشح الجمهوري دونالد ترامب، علما وأن المشهد الذي رافق خروجها من الاحتفال بذكرى الحادي عشر من سبتمبر كفيل بتدمير صورة أي مرشّح رئاسي، خصوصا إذا كان سبق لهذا المرشح أن عانى من أزمات صحّية كثيرة في الماضي القريب.
ليس سرّا أن المرشحة الديمقراطية ذات تاريخ طويل مع المرض. فقد سبق لها أن تعرّضت لجلطة في الرأس لا يبدو أنّها تعافت منها كلّيا. هناك بعض الآثار التي تظهر على وجه كلينتون بين حين وآخر، خصوصا عندما تتكلم. تؤكد هذه الآثار أن هناك شيئا غير طبيعي فيها. على الرغم من ذلك كلّه لا يزال مرجّحا أن تكون هيلاري كلينتون الرئيس المقبل للولايات المتحدة. يمكن أن تصبح رئيسا للولايات المتحدة، لا لشيء سوى لأنّها أقل سوءا وعنصرية ووقاحة وجهلا في ما يدور في العالم من ترامب.
ما سرّ بقاء كلينتون متقدّمة على ترامب؟ الجواب بكلّ بساطة أن السلاح الأقوى للمرشحة الديمقراطية هو شخص المرشّح الجمهوري نفسه. لم تستسلم لوضعها الصحّي الذي يبدو واضحا أنّه يحول دون استمرارها في خوض الانتخابات الرئاسية التي تحتاج إلى شخص يتمتع بصلابة في كلّ المجالات، بما في ذلك الحال الصحيّة.
هناك انعدام للثقة لدى المواطن الأميركي العادي بهيلاري كلينتون، لكنّ هذا المواطن يعرف على الأقلّ مع مَن يتعاطى في حال فوزها في الرئاسة. لن يغيب عن باله عهد زوجها الذي استمر ثماني سنوات والذي انتعش خلالها الاقتصاد، فيما هبط مستوى السلوك الأخلاقي في البيت الأبيض. لن ينسى الأميركي خصوصا فضائح بيل كلينتون، وهي متنوعة إلى حدّ كبير، لكنّه سيتذكّر أن الرجل كان ذكيّا وحاذقا وعرف كيف يتجنب التورط في الحروب الخارجية إلا أنّه اتخذ قرارات كبيرة عندما استوجب الأمر ذلك بدليل إنقاذه لمسلمي كوسوفو في المواجهة التي خاضوها مع الصرب.
يعرف المواطن الأميركي نقاط الضعف في هيلاري كلينتون ونقاط القوّة لديها ولدى زوجها طبعا. لا يمكن فصل شخصية هيلاري عن شخصية بيل كلينتون بأي شكل، وهي التي سامحته بعد انكشاف فضيحة مونيكا لوينسكي التي كانت تتدرّب على يد الرئيس الأميركي في البيت الأبيض. احترم الأميركيون هيلاري التي حافظت وقتذاك على رباطة جأشها وحمت العائلة بعد تلك الفضيحة المدويّة التي عصفت بعهد بيل كلينتون.
ما يعرفه الأميركيون أيضا أن هيلاري كلينتون لم تكن دائما في مستوى المسؤولية عندما تولت وزارة الخارجية في السنوات الأربع الأولى من عهد باراك أوباما. تتحمّل مسؤولية ما في مقتل السفير الأميركي في ليبيا كريس ستيفنز مع عدد من مرافقيه على يد متطرّفين في ما يعرف بحادث بنغازي في الحادي عشر من أيلول ـ سبتمبر من العام 2012. وقتذاك، هاجم مسلحون القنصلية الأميركية في بنغازي أثناء زيارة للسفير واغتالوا السفير مع عدد من مساعديه. من الواضح أن وزارة الخارجية تتحمّل مسؤولية غياب الإجراءات الأمنية المطلوبة في وقت كانت ليبيا، خصوصا مدينة بنغازي، على فوهة بركان.
ارتكبت هيلاري كلينتون هفوات عدة في مرحلة ما بعد الجريمة. إضافة إلى ذلك، أظهرت خفّة كبيرة في قضية بريدها الإلكتروني واستخدامها لعنوانها الخاص في تبادل رسائل تحمل طابع السرّية المطلقة. صحيح أن مكتب التحقيق الفيدرالي “أف. بي.آي” الذي حقّق معها لاحقا لم يرفع قضية عليها، لكنّ الصحيح أيضا أنّه أبقى الشكوك تحوم في شأن تصرفاتها كوزيرة للخارجية ومدى التزامها بالإجراءات الأمنية المطلوبة من شخص كان يشغل أحد أهمّ المواقع في الإدارة.
لكن السؤال الذي سيظل الأميركيون يطرحونه على أنفسهم في نهاية المطاف من أسوأ مِن مَن؟ يبقى دونالد ترامب بالنسبة إلى معظم الأميركيين أسوأ من هيلاري كلينتون. هناك علامات استفهام كثيرة تدور حول طريقة جمعه لثروته ومدى معرفته بما يجري في العالم وعلاقاته المشبوهة بالصين وروسيا أو أوكرانيا، على سبيل المثال وليس الحصر. ليس بعيدا اليوم الذي سيمكن فيه كشف الوضع الضريبي لدونالد ترامب وهل التزم حقّا بواجباته الوطنية في مجال دفع الضرائب المتوجبة عليه؟
يستطيع ترامب أن يقول أي شيء عن أي شخص كان، بما في ذلك أن شهادة الولادة لباراك أوباما “مزوّرة” وأن آل كلينتون “قتلة” وأن والد أحد الذين نافسوه كان إلى جانب لي هارفي أوزوالد الذي اغتال الرئيس جون كينيدي في العام 1963.
لا يتورّع دونالد ترامب عن شيء. يعد الأميركيين بنمو اقتصادي بنسبة أربعة في المئة، لكنه لا يقدّم أي خطة تحدد كيف سيحقق ذلك. لا وجود لبرنامج اقتصادي واضح المعالم لديه. لا يملك إلا الوعود الفارغة من أي مضمون.
لن يتمكن في أي وقت من الحصول على دعم المرأة أو السود أو الناطقين بالأسبانية الذين يشكلون نسبة كبيرة من الناخبين. كذلك لن يتمكن من الحصول على تأييد الشاذين جنسيا الذين باتوا يشكلون نسبة لا بأس بها من الأميركيين، من رجال ونساء. لن يتمكن حتّى من الحصول على تأييد البيض، من أصول أنغلوساكسونية، الذين يدعمون تقليديا الحزب الجمهوري. ستهزمه، على الأرجح، امرأة لا تتمتع بثقة الأميركيين، إضافة إلى أنّها لا تتمتع بصحة جيدة.
لا يزال اللغز كيف استطاع دونالد ترامب التغلّب على كلّ منافسيه الجمهوريين والحصول على ترشيح الحزب. هل تغيّرت أميركا إلى حدّ لم يعد من سلاح لدى هيلاري كلينتون، ذات الصورة المهتزّة، غير كره الأميركيين لمنافسها؟
لا يزال دونالد ترامب يحتاج إلى أعجوبة كي يصبح رئيسا لأميركا. أمله الوحيد في عدم إقبال الناخبين على صناديق الاقتراع يوم الاستحقاق الرئاسي في تشرين الثاني ـ نوفمبر المقبل.
هل يتخذ الأميركيون في هذه الحال قرارا بالدخول في المجهول… أم سيفضلون انتخاب هيلاري كلينتون التي يعرفونها وتعرفهم ويعرفون حسناتها وسيئاتها، خصوصا ما الذي يمكن توقّعه في حال فوزها لتكون المرأة الأولى التي تدخل البيت الأبيض.