الصحافة اللبنانية لم تمت بعد…

الصحافة اللبنانية لم تمت بعد…

المغرب اليوم -

الصحافة اللبنانية لم تمت بعد…

بقلم : خيرالله خيرالله

هناك أزمة مركّبة اسمها أزمة الصحافة اللبنانية. ترمز الحال التي تمرّ فيها صحيفة “النهار” إلى عمق هذه الأزمة. هناك صعوبات حقيقية تواجه “النهار” التي صدرت في آب – أغسطس من العام 1933. هذه الصحيفة، التي اضطرت إلى بيع بعض ممتلكاتها لتتمكن من متابعة الصدور في الأشهر القليلة المقبلة، ستجد أن أزمتها الراهنة قابلة لأن تتجدد عاجلا أم آجلا في غياب حلّ جذري يضمن استمرارها. أزمة “النهار” أعمق بكثير مما يعتقد في غياب خطة مدروسة ومتكاملة تستهدف إنقاذها.

في سياق الأزمة، توقّفت قبل أيّام جريدة “السفير” التي لعبت دورا أساسيا منذ العام 1974. بدأت بلعب دور صوت “الحركة الوطنية”، ودعمت المقاومة الفلسطينية في ظل وجود مجموعة من الصحافيين اللامعين من ذوي الخبرات فيها، وفي ظل دعم من قسم لا بأس به من اللبنانيين كانت تعبّر عن صـوتهم. لكنّها مـا لبثت أن انتقلت إلى معـاداة النظام اللبناني، الذي ما كان لأي صحيفة أن تكبر وتنمو من دونه. صار هذا الخطّ في مرحلة لاحقة قريبا دائما من نظام الوصاية السوري أو من الحليف الأوّل لهذا النظام، في مرحلة معيّنة ثم راعيه لاحقا. والمعني هنا إيران بكلّ ما تمثّله منذ العام 1979، تاريخ قيام “الجمهورية الإسلامية” فيها. هذه “الجمهورية” التي هي نقيض تام لما عليه لبنان كناية عن نظام يحمل مشروعا توسّعيا ذا طابع مذهبي على الصعيد الإقليمي.

كان وجود “السفير”، بفضل المال الليبي في البداية، وتطورها دليلا على أن لبنان يتّسع للجميع وعلى أنّه ليس بالهشاشة التي يتصورّها كثيرون. من بين الذين كانوا يتحدثون عن “هشاشة” لبنان أركان النظام السوري الذي عمل دائما من أجل تدجين الصحافة اللبنانية، وذلك منذ قبل دخول القوات السورية إلى البلد تحت غطاء “قوات الردع العربية”. كان أوّل ما فعلته القوات السورية عندما دخلت لبنان إغلاق الصحف، على رأسها “النهار” و“السفير”. عاودت الصحيفتان الصدور بعد فترة إغلاق قصيرة ولكن تحت الرقابة…

زاد وضع الصحافة سوءا هذه الأيام لأسباب خاصة بكلّ من “النهار” و“السفير”، إضافة بالطبع إلى غياب المال السياسي العربي. ولكن ما لا مفرّ من الاعتراف به أن الصحيفتين خرّجَتا عددا كبيرا من الصحافيين والأقلام التي ساهمت في تقدّم الصحافة العربية، بما في ذلك تلك التي صدرت في أوروبا. بقيت “السفير” دائما جريدة تتميّز بمقدار معيّن من المهنيّة. احترمها خصومها قبل أصدقائها.

لا يمكن الفصل بين أزمة الصحافة اللبنانية وأزمة لبنان بكلّ أبعادها، مع التشديد مجدّدا على أن هناك حالتين خاصتين تختلف كلّ منهما عن الأخرى، هما حالة “النهار” وحالة “السفير”. الاختلاف بين الحالتين لا يعني عدم وجود نقاط التقاء بينهما. من بين نقاط الالتقاء الفشل في قيام مؤسسة غير مرتبطة بالأشخاص. فشلت “النهار” لأنّ هناك جهة معروفة اغتالت جبران تويني. كان جبران تويني شخصا يمتلك ما يكفي من العلاقات لإبقاء “النهار” عائمة. من اغتاله عرف تماما ما الذي يفعله، لا لشيء سوى لأنّ الهدف كان التخلص من الجريدة، القائمة على شخص، والتي دخلت منذ غياب جبران غسّان تويني مرحلة الموت البطيء. أما “السفير” فقد توقّفت لأن صاحبها، الأستاذ طلال سلمان، وصل إلى مرحلة وجد نفسه فيها وحيدا وبات مضطرا إلى سد العجز من ماله الخاص، خصوصا بعد شحّ المورد الإعلاني وغير الإعلاني.

استطاع الأستاذ غسّان تويني في مرحلة ما بعد اغتيال نجله جبران إبقاء “النهار” على قيد الحياة، لكنّ كلّ وضع الجريدة راح يتراجع سريعا منذ وفاته في الثامن حزيران ـ يونيو 2012. بقي غسان تويني حتّى اليوم الأخير من حياته يقاتل من أجل “النهار” التي أسسها والده، والتي عرف كيف يجعل منها في مرحلة معيّنة، خصوصا بعد اغتيال الشخصية الاستثنائية التي اسمها كامل مروة في أيّار ـ مايو من العام 1966، الجريدة الأهمّ في العالم العربي.

لم تكن صحف بيروت في خمسينات وستينات وسبعينات، وحتّى ثمانينات وتسعينات القرن الماضي صحفا لبنانية. كانت أيضا صحفا عربية ذات أجندات خاصة بكلّ منها. كان طبيعيا أفول نجمها مع بدء أفول نجم بيروت في العام 2005 إثر اغتيال رفيق الحريري، الذي أعاد بناء المدينة، كما أعاد الحياة إلى لبنان وأعاد وضع لبنان على خارطة المنطقة والعالم. فمنذ اغتيال رفيق الحريري، هناك عملية خنق مستمرّة لبيروت يظلّ أفضل تعبير عنها الهجمات المتتالية التي تتعرّض لها المدينة من أجل ترييفها ومنعها من التطوّر وذلك في ظلّ أزمة اقتصادية لا سابق لها في لبنان. هل من يريد أن يتذكّر الاعتصام في وسط المدينة بعد حرب صيف العام 2006، ثمّ الغزوة التي استهدفتها في السابع من أيّارـ مايو 2008؟

ليس سرّا أن الصحف الكبيرة في العالم مرتبطة بمدن معيّنة. “نيويورك تايمز” مرتبطة بنيويورك، و“واشنطن بوست” مرتبطة بواشنطن. “لوموند” مرتبطة بباريس، “التايمز” بلندن… علما أن المدن الكبرى تتسع، كل منها، لأكثر من صحيفة ناجحة، خصوصا عندما تكون هناك موازنات إعلانية كبيرة متوافرة. كلّما ازدهرت المدينة الكبيرة، زاد ازدهار الصحف فيها. تعكس الصحف في نهاية المطاف الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، ومدى تأثيرها على محيطها.

لا يمكن عزل أزمة الصحافة اللبنانية عن صعود المواقع الإلكترونية ولا عن تقلص حجم الموازنات الإعلانية ولا عن غياب المال السياسي العربي، فيما لا يزال المال الإيراني موجودا بطريقة أو بأخرى. لكنّ لا بدّ من الاعتراف أيضا بأن هناك أزمة خاصة بكلّ جريدة تصدر من بيروت أو توقّفت عن الصدور. لا حاجة بالطبع إلى الدخول في التفاصيل التي تعني أشخاصا معيّنين وحالتين خاصتين. لا بدّ من التفكير في أنّ بيروت لم تمت بعد. وهذا يعني في طبيعة الحال أن أزمة “النهار” وتوقف “السفير” لا تعنيان في الضرورة نهاية الصحافة اللبنانية… اللهمّ إلا إذا كان الهدف من كلّ ما تعرّض له لبنان وبيروت بالذات عبر “حزب الله” يستهدف القضاء على الصحافة أيضا.

قد يكون هناك مكان لمشاريع صحافية انطلاقا من بيروت شرط أن تتسم هذه المشاريع بحد أدنى من الواقعية، أي أن تأخذ في الاعتبار أن ثمّة حاجة إلى تجارب جديدة لشباب يمتلكون القدرة على الجمع بين الماضي والمستقبل. يمكن لهذه التجربة أن تكون بتمويل من أصحاب عقول ورأسماليين أذكياء ومستنيرين من أبناء لبنان، لديهم أجندة لبنانية قبل أيّ شيء آخر. فمن من بين ما تعاني منه “النهار” غياب التفكير الذي يستطيع التخطيط لجريدة من نوع جديد يمكن أن تجلب استثمارا لرأسمال لبناني فيها. هذه العقلية قتلها من قتل جبران تويني الذي كانت انطلاقته الكبرى من “نهار الشباب”. من يتذكّر تلك التجربة المتميّزة التي كانت أقرب إلى مغامرة أكثر من أيّ شيء آخر؟

لم تمت الصحافة اللبنانية بعد. ما مات هو نمط معيّن من الصحف لم يحسن القيمون عليها مد جسور مع المستقبل لا أكثر ولا أقلّ. ليس طبيعيا أن تتقوقع الصحف اللبنانية بمجملها على نفسها وأن لا يوجد فيها أشخاص يمتلكون حدا أدنى من المخيلة والمعرفة بلبنان والعالم العربي. ليس طبيعيا أن يكون فيها أشخاص ما زالوا يكتبون الموضوع ذاته منذ عشرين أو ثلاثين سنة، حتّى لا نقول أكثر. هل من يتجرّأ على خوض مغامرة صحافية جديدة انطلاقا من بيروت وإنْ بإمكانات متواضعة؟ ما قد يكون أهمّ من ذلك سؤال في غاية البساطة: هل لا يزال مسموحا صدور صحيفة عربية حقيقية من بيروت؟

المصدر : صحيفة العرب

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصحافة اللبنانية لم تمت بعد… الصحافة اللبنانية لم تمت بعد…



GMT 18:13 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

لا ثقة بحكومة حسّان دياب

GMT 15:45 2020 السبت ,08 شباط / فبراير

أوراق إيران التي ذبلت

GMT 09:52 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

أكثر من أي وقت… نفتقد نسيب لحّود

GMT 09:43 2020 الخميس ,06 شباط / فبراير

سقوط آخر لبريطانيا

GMT 09:51 2020 الأحد ,02 شباط / فبراير

عندما يهرب لبنان إلى "صفقة القرن"

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 03:00 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

هيلاري كلينتون تتعرض للسخرية من قبل "فانتي فير"

GMT 17:26 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

مدبولي يفصح عن احترام شادية لمواعيدها على "ماسبيرو زمان"

GMT 04:18 2017 الأحد ,24 كانون الأول / ديسمبر

تجارب نيفادا النووية تكشف عن كميات كبيرة من الإشعاع

GMT 18:56 2017 السبت ,02 كانون الأول / ديسمبر

وزارة الأسرة تستعد لإطلاق برنامج "يقظة" في المغرب

GMT 01:43 2016 الإثنين ,15 آب / أغسطس

متي يمكن معرفة جنس الجنين بوضوح

GMT 02:45 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

انتهاك بحري إسرائيلي لسيادة المياه الإقليمية اللبنانية

GMT 06:38 2015 الأحد ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

معتقل سابق في غوانتانامو يؤكد صعوبة العودة إلى الحياة
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya