بيروت - يطوي غياب الدكتور عبدالمجيد الرافعي صفحة من تاريخ لبنان. لبنان المرتبط مباشرة بالأحداث العربية وتطوراتها وانعكاسها على الوطن الصغير الذي تحوّل في مرحلة معيّنة، في ظلّ الوجود الفلسطيني ثم الإيراني، “ساحة” للصراعات والنزاعات الإقليمية وحروب البعثيْن السوري والعراقي.
كان عبدالمجيد الرافعي شاهدا على تلك الحروب التي كانت مدينة طرابلس من ضحاياها. وكان في كلّ وقت من بين رهائنها ومن ضحايا الظلم الذي لحق بالمدينة التي اختارت أن يكون نائبا من نوابها.
في أيّام عبدالمجيد الرافعي، الرجل النقي الذي توفّى قبل أيّام قليلة، البعيد أكثر البعد عن مساوئ الانتهازية، وعضو مجلس النوّاب اللبناني بين 1972 و1992 وعضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي (الجناح العراقي)، كانت المنطقة مختلفة وكان لبنان مختلفا. المنطقة تغيّرت ولبنان تغيّر.
انطفأ عبدالمجيد الرافعي، السياسي الإنسان، الذي آمن بمبادئ معيّنة في موازاة انطفاء الحياة السياسية في البلد. عاش جزءا من حياته في العراق وفي بلده لبنان حيث استطاع مواطن بعثي يؤمن بالوحدة العربية، أي بـ”القطر اللبناني” الوصول إلى مجلس النوّاب بفضل ما كان يمتلك من رصيد في طرابلس وليس بفضل الدبابة السورية أو سلاح “حزب الله”.
كانت ميزة لبنان، الذي لم يتوقف عبدالمجيد الرافعي يوما عن خدمته، بدءا بفقراء طرابلس الذين كانوا يلجأون إليه كطبيب مستعد لمعالجتهم من دون مقابل، إنّه قادر على استيعاب كلّ أبنائه.
استوعب لبنان أولئك الذين كانوا يعتقدون أنّه كان يجب أن يكون مجرّد “قطر” في إطار الوحدة العربية التي مثلت في كلّ وقت وهما كبيرا وشعارا فضفاضا لا معنى عمليا له.
كان الرافعي، ابن العائلة الطرابلسية العريقة البعثي الوحيد الذي استطاع دخول مجلس النوّاب اللبناني عن استحقاق، وليس عن طريق طرف سياسي خارجي، كما حصل مع نوّاب البعث السوري.
كان لدى عبدالمجيد الرافعي ما يعطيه للبعث وليس العكس. كان ذلك بسبب لبنانيته وقاعدته الشعبية الحقيقية أوّلا. كان نوعا من العملة النادرة في حزب لم تبق فيه سوى قلّة قليلة من الأشخاص الصادقين المستعدين للذهاب بعيدا في الدفاع عن مبادئ آمنوا بها إيمانا عميقا في مرحلة صعود الأفكار الحالمة بالوحدة والحرية والاشتراكية.
كان البعث كلّ شيء باستثناء الوحدة والحرية والاشتراكية. مع ذلك، آمن به رجل مثالي، إلى حدّ كبير، مثل عبدالمجيد الرافعي. بقي “الدكتور عبدالمجيد” رجلا حالما حتّى اليوم الأخير من حياته
ميشيل عفلق الأمين العام التاريخي لحزب البعث قد حرص الرافعي مرارا على نفي ما تردد من رفضه للحرب ضد إيران
من خلال تجربة عبدالمجيد الرافعي يتكشف أمران. الأوّل مدى نقاء الرجل والآخر مأساة اللبنانيين الذين كانوا يحلمون بأنّ الوحدة العربية يمكن أن تكون شيئا آخر غير مطيّة لأنظمة دكتاتورية. لا تؤمن هذه الأنظمة إلّا بإلغاء الآخر، في حين تصلح الشعارات لاستخدامات كثيرة على رأسها الاحتفاظ بالسلطة والتشبث بها إلى أبعد حدود التشبث.
ظُلم عبدالمجيد الرافعي. كان ظلمه من الظلم الذي لحق بطرابلس. عندما انتخب نائبا في العام 1972، كانت طرابلس مدينة لكلّ أهلها.
كانت مدينة العيش المشترك. حاز على أعلى نسبة من أصوات المسيحيين فيها. كذلك، على أعلى نسبة من أصوات العلويين.
لم يكن نظام حافظ الأسد، الكاره للمدن السنّية، تحكّم بعد بسوريا تحكّما كليّا. لم يكن مدّ بعد نفوذه إلى طرابلس حيث جيّش العلويين فيها، من زاوية طائفية، ليكونوا في خدمته وخدمة أجهزته.
قاوم عبدالمجيد الرافعي، المؤمن بطرابلس كمدينة للعيش المشترك أبعد حدود المقاومة إلى أن اضطر إلى مغادرة لبنان بعد وضع اليد السورية عليه. رفض، استنادا إلى أشخاص عرفوه، كلّ المحاولات التي جرت لاحتوائه.
كان الحلّ السهل بالنسبة إليه الانتقال من البعث العراقي إلى البعث السوري، لكنّه لم يفعل، كما فعل كثيرون غيره سيتغنّون هذه الأيّام بمزايا عبدالمجيد الرافعي ومدى قربهم منه. اختار المنفى على التخلي عمّا كان يعتقد أنّه صواب.
سقوط بغداد وتسليمها لإيران أعاد الرافعي إلى طرابلس وأنهى حرب البعثين بعد ارتماء بعث سوريا في عهد بشار في الحضن الإيراني
بقي الرجل كلّ حياته مقاوما للنظام السوري الذي اضطهد كلّ بعثيّ عراقي، كما غيّر طبيعة العلاقة بين السنّة والعلويين في طرابلس مع ما ترافق من تهجير لمسيحيي المدينة الثانية في لبنان وعاصمة الشمال فيه. وزاد هذا الاضطهاد للبعثيين العراقيين كلّما زاد التغلغل الإيراني في لبنان. إنّه تغلغل في العمق ارتبط بالعلاقة بين طهران والبعث السوري، الذي كان بعثا علويا قبل أيّ شيء آخر يؤمن بتحالف الأقلّيات، وبالعلاقة المصيرية مع نظام “الجمهورية الإسلامية” الذي أقامه آية الله الخميني في إيران.
كان من بين الخطوات التي أقدمت عليها إيران بعيد مباشرة تثبيت قدميها في لبنان التخلّص من كلّ بعثي عراقي ينتمي إلى الطائفة الشيعية. صار ممنوعا على الشيعي أن يكون بعثيا ينتمي إلى الجناح العراقي في الحزب، خصوصا مع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية في العام 1980.
أمّا البعثيون الآخرون من سنّة ومسيحيين فقد تولّت الأجهزة السورية أمرهم. حصل ذلك بعد وضع النظام السوري يده على كلّ لبنان في خريف العام 1990.
دفع عبدالمجيد الرافعي فواتير كثيرة، في مقدّمها فاتورة كونه ابن طرابلس الذي استطاع دخول المجلس النيابي بفضل القاعدة الشعبية التي كوّنها لنفسه وذلك على الرغم من الاعتراضات السورية. كان حقّا “طبيب الفقراء”.
كان رجلا طيبا بكلّ معنى الكلمة. ولكن ما العمل عندما لم يعد أمامه سوى خيار المنفى للمحافظة على حياته من جهة وكي يكون صادقا مع نفسه من جهة أخرى؟
لم يمنع المنفى عبدالمجيد الرافعي من مساعدة المؤسسات اللبنانية التي كانت تعمل فعلا من أجل خدمة المواطنين، بغض النظر عن أيّ انتماء طائفي أو مذهبي. تلك كانت ميزته الأولى، ميزة عبدالمجيد الرافعي الإنسان الذي عمل كلّ ما يستطيع في مرحلة معيّنة من أجل إنقاذ “جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية” التي عانت من ضائقة مالية. كان ذلك في أيّام الرئيس صائب سلام الذي بقي، من منفاه السويسري، يكنّ احتراما خاصا لعبدالمجيد الرافعي.
من بين الفواتير التي دفعها الرجل الذي كان ضحية حروب البعثيْن، المأساة التي حلّت بالعراق. دفع فاتورة المغامرة الكويتية المجنونة لصدّام حسين في 1990 وما تلاها من حصار، ثم فاتورة الحرب الأميركية على العراق في العام 2003.
عندما سقطت بغداد وجرى تسليم أميركي للعراق إلى إيران، عاد عبدالمجيد الرافعي إلى طرابلس الحضن الدافئ لأبنائها. بسقوط بغداد انتهت حروب البعثيْن، خصوصا أن البعث السوري صار شيئا فشيئا، وخصوصا في عهد بشّار الأسد، أقرب إلى تابع لإيران وأداة من أدواتها الإقليمية. بقي عبدالمجيد الرافعي في طرابلس محافظا على ما آمن به وإلى جانبه رفيقة العمر زوجته الفاضلة السيدة ليلى بقسماطي التي علّمت اللغة العربية في “الأنترناشونال كولدج” في بيروت في ستينات القرن الماضي.
بقي عبدالمجيد الرافعي بعثيا رافعا شعار فلسطين على الرغم من تراجع القضيّة. بقي يحذر من الخطر الإيراني. عاش هذا الخطر في لبنان والعراق وفي لبنان مجددا. كانت لديه في كلّ الوقت الجرأة الكافية لقول ما يجب قوله عن المشروع التوسّعي الإيراني الذي أنهى العراق ويكاد يقضي على لبنان. الأكيد أنه رحل وفي قلبه غصّة، غصّة على العراق الذي كان وطنه الثاني حقّا.