كشفت ردود الفعل الداخلية اللبنانية على سقوط طائرة إسرائيلية من دون طيّار وانفجار أخرى في الضاحية الجنوبية لبيروت صعوبة مصالحة معظم اللبنانيين مع المنطق والواقع. أكثر من ذلك، ظهر تعاطف مع “حزب الله”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني والذي أثبت مرّة أخرى أنّه حلّ مكان الدولة اللبنانية. حصل ذلك في وقت لا بدّ من امتلاك شجاعة طرح سؤال في غاية البساطة على الحزب وعلى الذين يستخدمهم لتغطيته، وخصوصا بين المسيحيين اللبنانيين. هذا السؤال مرتبط بما يقوم به على الأرض اللبنانية وخارجها. أين مصلحة لبنان في خرق القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؟
لا مصلحة للبنان في ذلك بأي شكل، خصوصا أن “حزب الله” وافق على كلّ كلمة في القرار الذي “أوقف الأعمال العدائية” صيف العام 2006 بعد حرب طويلة افتعلها وقتذاك الحزب في سياق الحملة التي كان يشنّها على لبنان واللبنانيين، من أجل تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه.
تبقى حرب صيف العام 2006 منعطفا تاريخيا على الصعيد اللبناني نظرا إلى أنّها انتهت بتدمير جزء لا بأس به من البنية التحتية اللبنانية على يد إسرائيل، وبانتصار للحزب على لبنان واللبنانيين. تأكّد بعد حرب صيف 2006 أنّ “حزب الله” يتحكّم بقرار السلم والحرب في لبنان… وصولا إلى مرحلة أصبح فيها يختار للبنانيين رئيس جمهوريتهم!
لا يختلف اثنان على أن إسرائيل تخرق القرار 1701، ولكن من يقرأ نص القرار، وعلى اللبنانيين تعلّم القراءة بدل تصديق الشعارات الفارغة وترديدها، يكتشف أنّ “حزب الله” أخذ ما أراده من القرار وراح يتصرّف بما يخدم مصالحه حتّى في منطقة عمليات القوّة الدولية في جنوب لبنان.
هذه القوّة الموجودة في الجنوب منذ العام 1978 وهي أصبحت، بعد حرب صيف 2006 وصدور القرار 1701، قوّة دولية “معززة” بالمزيد من الرجال وذات مهمات أخرى تشمل منع تهريب السلاح غير الشرعي إلى لبنان من البرّ والبحر والجوّ…
كان يمكن للبنان أن يدافع عن مصالحه مستندا إلى القرار 1701. من مصلحة لبنان الالتزام الدقيق بالقرار والعمل على تطويره. هذا على الأقلّ ما يفهم من كلام الرئيس سعد الحريري في أثناء زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة. في أثناء الزيارة، التي سمع خلالها رئيس مجلس الوزراء كلاما صريحا عن المخاطر التي تهدّد لبنان واقتصاده، دعا الحريري إلى تحويل القرار 1701 من قرار يوقف “الأعمال العدائية”، إلى قرار يثبّت “وقف إطلاق النار” بين لبنان وإسرائيل.
من واجب المسؤولين اللبنانيين إدانة أي خرق إسرائيلي للأجواء اللبنانية. هذا أمر مفروغ منه. لكنّ هذا الأمر لا يتعارض، بأي شكل، مع اتخاذ موقف صريح من “حزب الله” الذي لا تهمّه سوى مصلحة إيران. كلّ ما يفعله الحزب حاليا هو العمل من أجل تحويل لبنان ورقة إيرانية، ورقة إيرانية أكثر من أي وقت مضى.
لا مصلحة للبنان في أن يكون ورقة إيرانية، خصوصا في ظلّ مواجهة بين إدارة دونالد ترامب و”الجمهورية الإسلامية”. هناك إصرار أميركي على استمرار العقوبات على إيران التي تريد أن تظهر في كلّ يوم أنها قوّة إقليمية تتحكم بأربع عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
من المفيد للمسؤولين اللبنانيين اتخاذ مواقف صريحة وجريئة بعيدا عن أي لغة خشبية. يفترض بهم الخروج من العقد التي تحكّمت بهم طويلا في مقدّمها عقدة “المقاومة” التي أوصلت إلى اتفاق القاهرة في العام 1969، وشرّعت السلاح الفلسطيني الذي تحول إلى جزء من الصراعات الداخلية اللبنانية. ليس سلاح “حزب الله” أفضل من السلاح الفلسطيني، بل هو أخطر منه نظرا إلى أن لبنانيين يحملونه. هذا السلاح الميليشيوي المذهبي يشكّل الخطر الأكبر على لبنان، خصوصا أنّه يلعب دوره في حرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب السوري منذ العام 2011.
إنّه بكل بساطة سلاح يحمي المتهمين أو “القدّيسين” الذين اغتالوا رفيق الحريري وارتكبوا جرائم أخرى استهدفت اللبنانيين الشرفاء. إنّه السلاح الذي يعمل على عزل لبنان عن محيطه العربي، وعلى تدمير كلّ مؤسّسة من مؤسسات الدولة اللبنانية وكل ما له علاقة من قريب بالاقتصاد اللبناني، الذي كان مزدهرا في الماضي القريب، والذي تبقى المصارف مع قطاع الخدمات والسياحة عموده الفقري.
يتلهى اللبنانيون بالشعارات الجوفاء، فيما اقتصاد بلدهم في حال يرثى لها وفيما النفايات تأكلهم وفيما لا كهرباء ولا ماء ولا طرقات في بلد كانت بنيته التحتية قبل أعوام قليلة من بين الأفضل مقارنة مع دول المنطقة.
هناك موازين قوى لا يستطيع أحد تجاهلها مهما رفع من شعارات. يكفي للتأكد من ذلك حجم الخسائر التي لحقت بلبنان جراء حرب صيف 2006 التي أوقفها القرار 1701. مصلحة لبنان في التزام هذا القرار بحذافيره، وليس بخرقه عبر التغاضي عن الأنفاق التي أقامها “حزب الله” في جنوب لبنان.
في النهاية، يبقى المنطق هو المنطق. مضت أربعون سنة و”الجمهورية الإسلامية” تعلن أنها تريد القضاء على هذه “الغدّة السرطانية” التي اسمها إسرائيل. ماذا كانت نتيجة ذلك؟ النتيجة الوحيدة أن إسرائيل تكرّس احتلالها للجزء الذي تريده من الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس.
أمّا بالنسبة إلى لبنان، فهو في حال تراجع مستمرّة ولم يعد هناك عربي يسأل عن مصيره كما كانت عليه الحال في الماضي. زاد طموح اللبنانيين إلى الهجرة، خصوصا بين الشباب المتعلّم الذي لم يعد يجد فرص عمل في وطنه بسبب سلاح “حزب الله” أولا، الذي لعب دوره في انهيار الاقتصاد وإبعاد العرب، خصوصا أهل الخليج، عن لبنان في ظلّ تدهور على كلّ المستويات في البلد…
هل يتصالح اللبنانيون مع المنطق… أم يبقون أسرى الشعارات؟ الخوف كلّ الخوف أن يكونوا أصيبوا، وهذا يشمل كبار المسؤولين في البلد، بـ”متلازمة ستوكهولم” (Stockholm Syndrome).
ما هي “متلازمة ستوكهولم”؟ هذه ظاهرة عمرها 46 عاما ظهرت للمرّة الأولى على موظفي فرع لمصرف في العاصمة السويدية احتُجز موظفوه رهائن. ظهرت على الموظفين بعد مرور بضعة أيّام علامات التعاطف مع محتجزيهم، بل تبنوا مطالب الخاطفين. هل هذا ما يحصل في لبنان حاليا بدل وضع الأمور في نصابها، والاعتراف بأن لا مستقبل للبلد بالرضوخ لمن صار رهينة لديهم… وما دام هناك سلاح غير شرعي غير سلاح الدولة اللبنانية ممثلة بجيشها وقوى الأمن الداخلي فيها؟
كلّا، لا يستطيع “حزب الله” ردع إسرائيل. كلّ ما يستطيعه هو التسبّب في تدمير لبنان أكثر في ظلّ شعارات جوفاء لا تخدم سوى إيران ومشروعها التوسّعي الذي يمكن أن يهدم ولا يستطيع أن يبني…