الحرب على لبنان مستمرة وستتخللها معارك أخرى في ظل الإصرار الإيراني على وضع بيروت تحت الوصاية التامة لطهران.
مرّت أمس (يوم الثاني عشر من تمّوز – يوليو) الذكرى العاشرة على الحرب التي افتعلها “حزب الله” من أجل تمكين إسرائيل من تدمير جزء من البنية التحتية اللبنانية والتغطية في الوقت ذاته على عملية وضع اليد على البلد بشكل تدريجي. إلى الآن، لا يزال الحزب يعتبر أنّه حقّق “انتصارا إلهيا” على إسرائيل في حرب انتهت عمليا بانتصاره على لبنان واللبنانيين. هل يتكرّس هذا الانتصار، أم لا يزال هناك من هو مستعد للوقوف في وجه أطماعه التي هي تعبير عن مشروع توسّعي إيراني يتلطى بالمذهبية، علما وأنّه في أساسه مشروع عنصري متكامل ليس إلا.
يكفي للتأكّد من هذا الانتصار الذي حقّقه “حزب الله” على لبنان الوضع الاقتصادي المتدهور في البلد من جهة، وغياب رئيس الجمهورية من جهة أخرى. يحصل ذلك في وقت يظهر يوميا أن المطلوب تغيير النظام في لبنان، والانتهاء من اتفاق الطائف الذي قام في أساسه على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. وتعني هذه المناصفة وجود توازن، على الصعيد الوطني، يحفظ حقوق كلّ الطوائف في ظلّ لامركزية موسّعة.
مازال لبنان ينتظر من يُقدم على خطوة أولى في اتجاه تطبيق هذه اللامركزية التي تساعد، إلى حدّ ما طبعا، في إزالة ورقة الابتزاز التي يمارسها “حزب الله” بواسطة سلاحه مع آخرين غيره عبر مجلس الوزراء ومؤسسات الدولة المختلفة.
كانت “حرب تموز” نقطة تحول على الصعيد اللبناني. أثبتت الحرب أن الأمر لا يتعلق بمعركة واحدة يصدّ فيها اللبنانيون عدوهم، كما حدث عندما أَخرجوا القوات السورية من لبنان إثر تظاهرة الرابع عشر من آذار- مارس 2005. الحرب على البلد مستمرّة وستتخللها معارك أخرى في ظل الإصرار الإيراني على وضع بيروت تحت الوصاية التامة لطهران، تماما كما حال بغداد ودمشق حاليا، وكما كاد أن يكون وضع صنعاء لولا “عاصفة الحزم”.
لم يكن كافيا التخلّص من رفيق الحريري، بتفجير موكبه، في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005، كي يستسلم لبنان نهائيا ويرضخ للأمر الواقع. كلّما زادت مقاومة اللبنانيين للوصاية الجديدة التي يسعى “حزب الله” إلى فرضها عليهم لمصلحة إيران، زاد حجم الحملة على الوطن الصغير.
بعد “ثورة الأرز”، التي لم يكن يتوقّعها منفذو جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه والمشاركون فيها من قريب أو بعيد، كان لا بدّ من حروب أخرى على لبنان وعلى اللبنانيين كي يقتنعوا بأن ليس من حقهم رفع رؤوسهم. عليهم أن يكونوا مثل ذلك القطيع الذي يؤمن بشعارات لا علاقة لها بالواقع من نوع شعار “الشعب والجيش والمقاومة” أو “المقاومة والممانعة”. ممنوع على اللبناني أن يطرح أسئلة مهما كانت بسيطة وبديهية، بما في ذلك سؤال يمكن أن يطرحه أب أو أم عن سبب موت شاب لبناني شيعي في سوريا دفاعا عن نظام بشار الأسد الذي تشارك ابنته الصغيرة في مباريات في الفروسية تقام في طهران!
لم يكن ردّ فعل “حزب الله” بعد “حرب تمّوز” مستغربا. نسي الحزب، فجأة، من وقف مع لبنان وساعد في إعادة بناء ما تهدّم. نسي الدور السعودي عن سابق تصوّر وتصميم. نسي الظروف التي أدت إلى وقف الحرب والجهود التي بذلتها الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة. نسي أن إعلان انتصاره في تلك الحرب لم يكن سوى رفع لعلامة النصر فوق ما اعتبر أنّه جثة اسمها لبنان. نسي أن الانتصار على لبنان شيء، وأن الانتصار على إسرائيل شيء آخر… اللهمّ إلا إذا كان المطلوب أن يهاجم بشار الأسد الحكام العرب ويصفهم بـ“أنصاف الرجال” مكافأة لهم على الدعم الذي تلقته سوريا وإيقافها على رجليها منذ احتكار والده للسلطة في العام 1970 من القرن الماضي.
الأكيد أن إسرائيل لم تكن تمانع في رفع الأمين العام لـ“حزب الله” السيّد حسن نصرالله علامة النصر، ما دامت حققت في نهاية المطاف جزءا من أهدافها، وذلك بصدور القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
يستجيب هذا القرار لبعض مطالبها، خصوصا أنهّا لم تكن تمانع في الماضي الوجود المسلّح غير الشرعي في جنوب لبنان… على حساب الجيش اللبناني بغض النظر عن طبيعة هذا السلاح، أكان فلسطينيا أو إيرانيا في أياد لبنانية. لكنّ استخدام “حزب الله” للصواريخ التي استهدفت “حيفا وما بعد حيفا” جعل إسرائيل تعيد النظر في حساباتها القائمة على إبقاء جبهة الجنوب اللبناني جرحا ينزف، كما يريد النظامان في سوريا وإيران.
السؤال الذي بات مطروحا الآن، إلى متى ستبقي إسرائيل على الوضع القائم الذي سمح بأطول فترة هدوء على طول خط الهدنة بينها وبين لبنان منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969؟
منذ انتصاره في “حرب تمّوز” على لبنان، أمعن “حزب الله” في إذلال اللبنانيين بكلّ الوسائل المتاحة، بدءا بالاعتصام في وسط بيروت لضرب الحياة الاقتصادية في البلد وتهجير أكبر عدد ممكن من شبابه، وصولا إلى الوضع الراهن، مرورا بالطبع بغزوة بيروت والجبل في أيّار- مايو من العام 2008. لا يتمثل الوضع الراهن في خلق أزمة اقتصادية لم يعرف البلد مثيلا لها في الماضي فحسب، بل في فراغ رئاسي وعزلة عربية للبنان أيضا.
بدل أن يكون لبنان في وضع يحسد عليه حاليا بفضل تدفق العرب والأجانب على مرافقه السياحية، حرص “حزب الله” ومن خلفه إيران على منع أي عربي، خصوصا إذا كان خليجيا من السياحة في البلد أو الاستثمار فيه.
أكثر من ذلك، يصرّ الحزب على خوض معارك في سوريا والمشاركة في الحرب التي يشنّها النظام العلوي على السوريين تحت غطاء روسي-إسرائيلي جاء نتيجة تفاهمات في العمق بين الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. يفعل “حزب الله” كلّ ذلك إرضاء لإيران في حين أن على لبنان المعاناة من الأمرّيْن.
تأتي الذكرى العاشرة لـ“حرب تمّوز” في وقت تغيّرت المنطقة كلّيا. سوريا التي عرفناها لم تعد موجودة، كذلك العراق، في حين طبّعت تركيا علاقاتها بإسرائيل وبروسيا، فيما صارت قضية فلسطين شبه منسيّة. ما لم يتغيّر هو الحرب المستمرّة على لبنان.
يبقى إفقار اللبنانيين وتهجيرهم كما يحصل الآن، تابعا لـ“حرب تموز” التي هي بدورها تابعة لاغتيال رفيق الحريري وللجرائم التي تلت والتي استهدفت تغطية تلك الجريمة. إلى متى يبقى لبنان “ساحة” لمشروع توسعي لا علاقة له به من قريب أو بعيد؟