نسيب لحود من السياسيين المسيحيين القلائل الذين أدركوا باكرا حجم التغييرات التي ألمّت بلبنان على كلّ صعيد.
تصدر بين حين وآخر إشارات، وإن كانت خجولة، تؤكّد أنّ لبنان يرفض أن يموت من جهة وأنّ النواة الصالحة ذات العقل السليم في المجتمع ما زالت حيّة ترزق من جهة أخرى. تظلّ هذه الإشارات ظاهرة صحيّة في بلد، هناك من يسعى إلى تدمير مؤسساته بطريقة منهجية وتغيير طبيعة المجتمع فيه.
قبل أيام انتخبت الهيئة العامة لـ”حركة التجدّد الديمقراطي”، وهو الحزب الذي أسّسه نسيب لحود رئيسا جديدا لها. مرّة أخرى كانت الحركة، وهي حزب سياسي مختلف، وفيّة لنسيب لحود، الذي توفّى في العام 2012. بقيت وفيّة لكل ما كان يمثّله الرجل على الصعيد اللبناني.
انتخبت الهيئة العامة للحزب فاروق جبر، الشخصيّة السنية البيروتية، رئيسا له، خلفا لكميل زيادة. نعم، هناك حزب لبناني أسّسه ماروني من جبل لبنان يخلفه ماروني آخر، ثمّ في مرحلة لاحقة، سنّي لديه نائبان للرئيس الأوّل شيعي (مالك مروة) والآخر أرثوذكسي (أنطوان حدّاد).
أسّس نسيب لحود، الذي كان نائبا للمتن بين 1992 و2005 ثمّ وزيرا في العام 2008، الحزب في العام 2001. أقدم على هذه الخطوة لتأكيد أنّ لبنان يستطيع تجاوز الطائفية والمذهبية وأن الجانب المشرق في الصيغة اللبنانية يمكن أن ينتصر على الجانب المظلم الذي طالت إقامته بعدما بسط ظلّه الثقيل على الحياة السياسية في البلد. أراد أن يقول بكلّ بساطة إنّه لا يزال في لبنان أشخاص فوق الطائفية والمذهبية والمناطقية ويتمتّعون في الوقت ذاته بالقدرة على أن يكونوا نظيفي الكف.
بقيت “حركة التجدّد الديمقراطي” وفيّة لنسيب لحّود الذي كان يمكن أن يكون أفضل رئيس للجمهورية في لبنان نظرا إلى أنّه كان مختلفا عن معظم السياسيين اللبنانيين بدءا برفضه كلّ نوع من أنواع الطائفية والمذهبية، كما قدّم نموذجا لرفض الفساد في بلد غارق في هذه الآفة إلى ما فوق أذنيه.
الأهمّ من ذلك كلّه، أنّ نسيب لحود لم يكن فقط في خانة أخلاقية لا علاقة لها بتلك التي حشر فيها السياسيون الآخرون، في معظمهم، أنفسهم فيها. مثّل حالا فريدة من نوعها بالقول والفعل في آن. كان أوّل ما عمله عندما دخل المعترك السياسي اللبناني بعد عودته من واشنطن، حيث كان سفيرا لكلّ لبنان ولكل اللبنانيين، إعلان رفض شركته المتخصصة في بناء المحطات الكهربائية الدخول في أيّ مشاريع داخل لبنان.
في موازاة ذلك، أكّد نسيب لحود في كلّ يوم أنّه شخصية سياسية مستقلة لا تقبل أن تكون تابعة لأحد، مهما كان ثمن هذه التبعية. هذا هو الجانب الأهمّ في شخصية رجل استثنائي لا تمكن مقارنته سوى مع عدد قليل من السياسيين اللبنانيين المترفّعين عن المادة مثل ريمون إده وفؤاد شهاب وآخرين غيرهما لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين.
كان نسيب لحود فوق رئاسة الجمهورية التي فقدت بريقها في لبنان منذ اغتيال الأجهزة السورية الرئيس رينيه معوّض في تشرين الثاني ـ نوفمبر 1989 وذلك بعدما أصرّ على أن يكون رئيسا للبنان. رفض رينيه معوّض أن يكون مجرّد موظّف برتبة مدير عام، أو ما دون ذلك، في رئاسة الجمهورية السورية، فدفع من حياته ثمنا لذلك.
جاء انتخاب فاروق جبر رئيسا لـ”حركة التجدّد” لتذكير اللبنانيين أن القيم التي مثّلها نسيب لحود لم تمت. لا يزال هناك من يؤمن بهذه القيم، خصوصا بين الشباب اللبناني. من الواضح أنّ مهمة رجل عاقل وحكيم في عمر فاروق جبر هو زرع القيم التي آمن بها نسيب لحود في نفوس الشباب اللبناني وفي تكوين شخصيتهم. وقد نذر الرجل نفسه لهذه المهمّة.
ثمة من سيقول إنّ “التجدّد” هو حزب النخبة في لبنان وأن لا أمل له في تحقيق انتشار واسع يوما حتى في الأوساط المتعلمة. يمكن أن يكون ذلك صحيحا إلى حدّ كبير. هناك أدلة كثيرة تدعم وجهة النظر هذه بما في ذلك نتائج الانتخابات في المتن حيث ترشّح نسيب لحود في دورة العام 2005 ولم ينجح. تقدّم عليه، في هذه المنطقة، التي يعتبر سكانها من ذوي المستوى التعليمي المعقول، مرشحون لا يصلح أفضلهم، أن يكونوا حاجبا عند نسيب لحود، هذا إذا استثنينا بيار أمين الجميّل، الذي اغتيل لاحقا، ثم سامي أمين الجميّل رئيس حزب الكتائب حاليا.
هل من ظلم أكبر من هذا الظلم يلحق بأفضل رجالات لبنان؟ هل من دليل أكبر على مدى التدهور والانحطاط والتعصّب الأعمى داخل قسم من المجتمع المسيحي في لبنان؟
كان آخرون، غير نسيب لحّود، استسلموا لليأس وللغرائز التي تسيّر قسما من اللبنانيين. بين هؤلاء للأسف من لا يزال يعتقد أنّ ميشال عون سيستعيد حقوق المسيحيين! أصيب نسيب لحود بإحباط، لكنّه لم يستسلم.
جاءت الانتخابات الأخيرة لـ”حركة التجدّد” لتثبت أن هناك من لا يزال مصرّا على المحافظة على إرث نسيب لحود وعلى ما يمثّله على كل صعيد. فنسيب لحود من السياسيين المسيحيين القلائل الذين أدركوا باكرا حجم التغييرات التي ألمّت بلبنان على كلّ صعيد، خصوصا في مجال التوازن العددي القائم بين المسيحيين والمسلمين. من هذا المنطلق لم يقاطع الانتخابات النيابية للعام 1992، بل شارك فيها من منطلق أن بداية عودة المسيحيين إلى لعب دور على الصعيد الوطني تكون بالانخراط مجدّدا في الحياة السياسية على الرغم من الوصاية السورية التي كانت قائمة وقتذاك. كانت تلك الوصاية تقوم على وضع أسوأ نوع من المسيحيين في الواجهة السياسية من أجل إذلال اللبنانيين جميعا وليس المسيحيين وحدهم.
نعم، لا يزال في لبنان حزب لا يفرّق بين مسيحي ومسلم وغني وفقير ومنطقة وأخرى. حزب غير محسوب لا على طائفة ولا على مذهب. مثل هذا الحزب هو المقاومة الحقيقية لكلّ ما له علاقة بالتخلف والفساد والمذهبية في هذه المرحلة المظلمة التي يمر فيها لبنان الذي عليه أن يعيش من دون رئيس للجمهورية
كان نسيب لحود يعرف تماما معنى اتفاق الطائف الذي يسعى “حزب الله” ومن خلفه إيران إلى التخلّص منه هذه الأيّام. كان يعرف معنى قول رفيق الحريري”أوقفنا العدّ”، أي أوقفنا المقارنة بين عدد المسلمين وعدد المسيحيين في لبنان حفاظا على الشراكة بين اللبنانيين والعيش المشترك وصورة البلد.
نعم، لا يزال في لبنان حزب لا يفرّق بين مسيحي ومسلم وغني وفقير ومنطقة وأخرى. حزب غير محسوب لا على طائفة ولا على مذهب. مثل هذا الحزب هو المقاومة الحقيقية لكلّ ما له علاقة بالتخلّف والفساد والمذهبية في هذه المرحلة المظلمة التي يمرّ فيها لبنان الذي عليه أن يعيش من دون رئيس للجمهورية. أكثر من ذلك، على البلد أن يتفرّج على ميليشيا مذهبية مسلّحة تضم شبّانا لبنانيين تشارك في الحرب على الشعب السوري بأوامر من إيران.
في ظلّ كلّ هذه التحديات التي يعيشها لبنان لا يزال هناك من يؤمن بما زرعه نسيب لحود، هذا الرجل الفاضل والمهذّب والصديق دائما، الذي لا يزال هناك من يؤمن به وبفكره وعقله وقدرته على الربط بين الفكر والممارسة، بعيدا عن الشعارات الفارغة والمزايدات والغرائز المذهبية.
كان بالفعل الرئيس ـ الحلم للبنان. لم يعن رحيله أنّ على اللبنانيين التوقف عن الحلم، بمقدار ما ازداد تعلّق القريبين منه بما مثّله وما زال يمثّله وبأنّه حلم لن يموت في بلد يستطيع مسلم أن يخلف مسيحيا وأن يخلف مسيحي مسلما في موقع ما من دون عقد وتبجّح من أيّ نوع كان. أليس هذا معنى ما شهدته “حركة التجدّد” قبل أيّام؟ أليس هذا دليلا على أن لبنان لم يمت بعد؟