اليمن دخل مرحلة المجهول. يحدث ذلك في غياب القدرة على اجتراح صيغة جديدة في بلد تغير كل شيء فيه. طالت التغييرات خصوصا التركيبة القبلية في الشمال، ونمط العيش في الجنوب.
ليس في الأفق ما يشير إلى إمكان حصول أيّ انفراج في اليمن. كلّما مرّ يوم يتبيّن كم من الصعب التوصل إلى حلّ سياسي في اليمن. أقصى ما يمكن تحقيقه هو هدنة تسمح بتوفير ما يكفي من الوقت للتفكير في ما يمكن أن يكون عليه مستقبل البلد. هذا عائد، إلى عدم وجود قوّة قادرة على الحسم على الأرض، أي على الحسم العسكري من جهة، والتغييرات التي طرأت في العقدين الماضيين على المجتمع اليمني ككلّ من جهة أخرى.
لدى التساؤل عمّا يمكن عمله في اليمن، لا مفرّ من أخذ هذه التغييرات العميقة التي طرأت على البلد في الاعتبار. اليمن الذي عرفناه انتهى. يمن ما قبل الوحدة انتهى، كذلك يمن ما بعد الوحدة. لذلك، كلّ كلام عن العودة إلى ما قبل الوحدة، وأن ذلك كفيل بحلّ مشاكل اليمن لا يستند إلى الواقع. الكلام شيء، وما على الأرض شيء آخر.
ما الشكل الذي يمكن أن يكون عليه اليمن في المرحلة المقبلة؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال. هذا عائد إلى سبب في غاية البساطة يتمثّل في أن قوى جديدة ظهرت في الشمال حيث الزيود، فيما تغيّرت طبيعة المجتمع في الوسط الشافعي بتأثير الإسلام السياسي، ممثلا بالإخوان المسلمين وما تفرّع عنهم من تنظيمات متطرّفة مثل “القاعدة”. هناك من لا يزال يراهن على الإخوان للانتصار على الحوثيين، أو أقلّه إعادتهم إلى حجمهم الطبيعي.
إضافة إلى ذلك، إنّ الجنوب الذي كان دولة مستقلّة صار شيئا آخر مختلفا كلّيا عما كان عليه قبل العام 1990، تاريخ إعلان الوحدة. يكفي للتأكد من مدى عمق التغييرات التي حصلت في الجنوب ملاحظة أن ما كان يسمّى الجيش الجنوبي، بألويته المستقلة المدرّبة تدريبا جيّدا، انتهى إلى غير رجعة. هذا الجيش لم يكن يتمتع بخبرات عسكرية فحسب، بل كان جيشا منضبطا إلى حدّ كبير.
في مرحلة معيّنة، سمح هذا الجيش للحزب الاشتراكي بالسعي إلى العودة عن الوحدة في العام 1994. لا يزال اليمن يدفع ثمن تلك المغامرة التي كلّفت الكثير، بما في ذلك إلغاء الدور الإيجابي الذي لعبه الحزب الاشتراكي، حتى اندلاع حرب الانفصال، في إيجاد توازن داخلي سمح بتطوير ما كان يمكن اعتباره بداية تجربة ديمقراطية قائمة على التعددية الحزبية.
سمح موقف الحزب الاشتراكي، الذي ما لبث أن أصيب باليأس من إمكان تطوير التجربة، بالوصول إلى إقرار دستور عصري نسبيّا، وذلك على الرغم من كلّ المحاولات التي بذلها الإخوان المسلمون لإدخال مواد على الدستور لا تمتّ بصلة إلى التعددية الحزبية والديمقراطية من قريب أو بعيد. نجح الإخوان في تعديل بعض المواد، لكنّ الدستور المعمول به، دستور دولة الوحدة تضمّن نقاطا إيجابية عدّة.
بعد عام 1994 وسقوط المشروع الانفصالي، لم تعد لمحافظات الجنوب علاقة بما كانت عليه في الماضي، أي في سنوات ما قبل الوحدة أو أيام الاستعمار البريطاني حين كانت عدن مدينة ذات رونق خاص، بسبب انفتاحها على العالم وسيادة القانون فيها.
في الشمال، ظهر الحوثيون الذين يسمّون أنفسهم الآن “أنصار الله”. لا يمكن الاستخفاف بهذه الظاهرة التي حدّت من دور القبائل اليمنية. استطاع الحوثيون في خمس عشرة سنة تغيير المجتمع الزيدي والمجتمع القبلي في الوقت ذاته. من كان يتصوّر أن الحوثيين سيخرجون زعماء حاشد (آل الأحمر) من بيوتهم؟ من كان يتصوّر أنهم سيدمّرون معسكرات اللواء 310 في عمران تمهيدا لدخول صنعاء والسيطرة عليها في أيلول ـ سبتمبر 2014؟
هذا اللواء كان تابعا للإخوان الذين ترتّبت عليهم مواجهة الحوثيين ورجال القبائل في الوقت ذاته. كانت المفاجأة أن قسما من حاشد قاتل مع الحوثيين، كذلك فعل قسم كبير من بكيل التي تعتبر أكبر قبيلة في اليمن!
في السنوات العشرين الماضية، أي منذ هزيمة المشروع الانفصالي في اليمن، تغيّر البلد كلّيا. لا يمكن في الوقت الحاضر تجاهل ذلك. لم يعد هناك وجود لحلول معلّبة لليمن. لذلك فشل مؤتمر الحوار الوطني الذي استمرّ طويلا، بل أكثر مما يجب. فشل هذا المؤتمر، الذي استضافه فندق “موفنبيك” في صنعاء، ليس عائدا إلى أن ليس في الإمكان الرهان على الرئيس الانتقالي عبدربّه منصور هادي فقط. فشل المؤتمر أيضا لأنّ الكلام عن “دولة اتحادية ذات ستة أقاليم” يزيد التعقيدات تعقيدا، ويفترض وجود سلطة مركزية قادرة على ترجمة ما يسمّى “مخرجات الحوار الوطني” على أرض اليمن.
بين 1978 و2011، حكمت اليمن صيغة قامت على تحالف بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي استقال في شباط ـ فبراير 2012 وقوى معيّنة اختلفت معه أحيانا، لكنّها تحالفت معه في معظم الأحيان. في مقدّمة هذه القوى كان الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر الذي توفّي أواخر العام 2007. انهارت تلك الصيغة يوم انتقل الصراع بين حلفاء الأمس إلى داخل أسوار صنعاء نفسها. استفاد الحوثيون إلى حدّ كبير من انقضاض الإخوان المسلمين على علي عبدالله صالح ومن محاولة الاغتيال التي استهدفته في منتصف العام 2011، والتي جعلت منه رجلا هاجسه تصفية الحسابات مع الذين حملوه على الاستقالة وحاولوا تصفيته.
تطورّت الأمور في اليمن إلى حدّ كبير في ظلّ توسع الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها الحوثيون المدعومون مباشرة من إيران. جاءت “عاصفة الحزم” التي انطلقت قبل نحو ثلاثة أشهر ونصف لمنع اليمن من التحول إلى مستعمرة إيرانية تستخدم منطلقا لتهديد الأمن الخليجي، خصوصا أمن المملكة العربية السعودية.
هذا واقع لا مفرّ من الاعتراف به. لكن الواقع الآخر الذي لا يمكن تجاوزه أن اليمن دخل مرحلة المجهول. يحدث ذلك في غياب القدرة على اجتراح صيغة جديدة في بلد تغيّر كلّ شيء فيه. طالت التغييرات الشمال والجنوب والوسط. طالت خصوصا التركيبة القبلية في الشمال، ونمط العيش في الجنوب.
لعلّ أخطر ما في الأمر، في موازاة التغييرات، غياب القوة القادرة على تغيير التوازن العسكري على الأرض، قوّة قادرة على تحرير ولو مدينة واحدة من الحوثيين ومن حليفهم الذي اسمه علي عبدالله صالح. ما لا بدّ من الإقرار به أنّه لولا الرئيس السابق، لم يكن “أنصار الله” قادرين على الالتفاف على تعز والوصول إلى عدن يوما!