المنتخبون والسلطة، حتى نخرج من دائرة العبث

المنتخبون والسلطة، حتى نخرج من دائرة العبث

المغرب اليوم -

المنتخبون والسلطة، حتى نخرج من دائرة العبث

احمد عصيد

تم التركيز خلال الانتخابات الأخيرة، كما لاحظ ذلك معظم المهتمين، على خطاب “محاربة الفساد والمفسدين”، حيث انبرى جميع المترشحين خلال الحملات للتنديد بالمفسدين وتزكية أنفسهم باعتبارهم الأبطال المنقذين من هذه الآفة، وذلك بمن فيهم الذين عرفوا بضلوعهم في استعمال  كل الطرق غير الشريفة للحصول على بعض الأصوات واحتلال بعض المقاعد.

خلال ذلك ساد منظور اختزالي عن الفساد والمفسدين، باعتبارهم العقبة الكأداء أمام تطور التجربة الديمقراطية المغربية واستعادة المغاربة لثقتهم في المؤسسات، لكن الحقيقة أن المعضلة الكبرى لا تتمثل في وجود أناس مفسدين، ذلك أنه في إطار نسق سياسي نظيف يسهل كثيرا معاقبة أمثال هؤلاء وردعهم وإبعادهم عن العملية الانتخابية، بينما استمرار وجودهم رغم الإجماع الفولكلوري والبلاغي ضدّهم، يعني فقط وبوضوح استمرار الحاجة إليهم، فسواء تعلق الأمر بالذين قاموا بتوزيع المال جهارا بدون خجل أو وجل، أو بالذين استعملوا جمعيات مدنية لإرشاء المواطنين عبر توزيع المؤن والمواد الغذائية أو حتى أكباش العيد، ليعودوا بعد ذلك بنفس الوجوه في إطار حملة انتخابية لحزب سياسي يدّعي تبرأه من الفساد، أو تعلق الأمر بمن يحتجز المواطنين ويقوم بشحنهم كالبهائم من أجل التصويت عليه، أو بمن استعمل الأطفال الأبرياء أو المنحرفين وقطاع الطرق، أو بمن له صلة بجهات خارجية تمول حملته بطرق ملتوية عبر جمعيات دعوية، أو بمن استغل تواجده في الحكومة لكي يستعمل وسائل الدولة لحاجاته الحزبية، أو بمن استغل المساجد أو بعض الخطباء والدعاة من عديمي الضمير ليخلط العقيدة بأغراضه السياسية، حيث تتعدّد أوجه الفساد وتتنوع، إلا أن كلّ هذا رغم ذلك لا يعدّ العقبة الرئيسية أمام حياة سياسية نظيفة لو توفرت إرادة الدولة في محاربته، كما لا يفسر عزوف الأغلبية عن انتظار شيء إيجابي من صناديق الاقتراع.

إن الفساد في بلدنا يتخذ طابعا أكثر خطورة عندما يصبح خاصية بنيوية للنسق السياسي، فالسلطة بحاجة إلى المفسدين بكل الطرق، لأن ذلك ما يضمن حدا أدنى من الناخبين، إذ بدون الفساد والمفسدين ستكون نسبة المشاركة مهولة في تدنيها، مما سيجعل عملية الاقتراع أكثر عبثية، كما أن المنتخبين الفاسدين (بكل الطرق التي أشرنا إليها)، يصبحون أكثر طواعية بالنسبة للسلطة، التي لم تكن في يوم ما مستعدة للتخلي عن تدبير الشأن المحلي لـ”ممثلي الشعب”، إلا في حدود مرسومة ومراقبة، تضمن الحفاظ على تراتبية الولاء وعلى مصالح الدوائر المستفيدة.

إن استمرار الفساد في الحياة السياسية، بقدر ما هو مؤشر خطير على استمرار سلبيات النسق السياسي القديم بكل مساوئه. يجعلنا نعتقد أنه مشكل لا يعود إلى المفسدين أنفسهم لوحدهم، ذلك أنّ النسق السياسي لا بدّ أن يصنع مفسديه حتى في حالة انعدامهم، فما دامت الأمور لا تدار وفق المبادئ المتعارف عليها في الديمقراطية الحديثة، فإن الحاجة إلى تدابير “استثنائية” تظل قائمة.
لقد كان من بين العوائق الكبرى التي عرقلت تطور المغرب على مدى أزيد من نصف قرن من الحياة النيابية والجماعية، الصراع العبثي بين المنتخبين والسلطة المحلية، والذي كان ضحيته دائما مصالح السكان، والمشروع الديمقراطي الوطني، حيث كان ينتهي إلى تكريس تبعية المؤسسات المنتخبة للسلطة التنفيذية، ويرهن كل المشاريع الوطنية لأهداف اللوبيات السلطوية والإدارية والعائلية.
يعود أصل هذا المشكل إلى طبيعة الدولة المغربية الوليدة بعد الإستقلال، والتي حافظت على طابع مزدوج يرمي إلى ضمان استمرار النسق التقليدي بواجهة عصرية، وبما أنّ شرعية السلطة التقليدية كانت ستصطدم عاجلا أو آجلا بشرعية صناديق الإقتراع، فقد أصبح المنتخبون من ذوي الشعبية الواسعة يمثلون مصدر تهديد حقيقي لشرعية السلطة، وهو ما جعل السلطة تراهن على إضعاف دور المنتخبين عبر الحفاظ على وصاية تامة على تدبير شؤون الجماعات المحلية والتحكم في الخريطة الانتخابية داخل كواليس وزارة الداخلية، من أجل ضمان استغلال الثروات والتحكم في موارد المال والنفوذ والثروة ضدا على القانون والمصلحة العامة. وهذا ما كان يجعل الانتخابات مجال صراع قوي بين السلطة وأحزابها من جهة والمعارضة اليسارية على وجه الخصوص، حيث كان رهان السلطة يتمثل في انتخاب ممثلين طيّعين للسلطة وعدم السماح بانتخاب أشخاص ذوي شعبية قد تزعج مصالح الأعيان من حلفائها، كما كان رهان المعارضة يتمثل في بناء الشرعية السياسية على أساس انتخابات نظيفة.
وإذا كان معظم المنتخبين المحليين يؤثرون السلامة ويفضلون التبعية العمياء للسلطات المحلية، والتضحية بالمصالح الكبرى للساكنة من أجل الإثراء السريع ونيل رضى السلطة، كما يحدث في تفويت الأراضي ومقالع الرمال والسّماح بصفقات غير قانونية لصالح رجال الدولة من النافذين، فإن قلة نادرة من ممثلي السكان كانوا يحاولون الوقوف في وجه طاحونة الفساد الجهنمية، لكنهم سرعان ما يصبحون معرضين لكل أنواع الانتقام.

يعني هذا أن مشكلتنا لا تتمثل في وجود مفسدين خلال الانتخابات، بل في وجود منتخبين تحت الوصاية، سواء كانوا فاسدين أو لا،  إذ لا يكفي اليوم أن يتقدم حزب سياسي إلى المواطنين بشعار محاربة الفساد لكي يعني ذلك أنه سيحقق آمال الناخبين.
إنها من المؤشرات السلبية التي ينبغي الإنكباب عليها، باعتبارها تطرح الإشكال الجوهري للديمقراطية، ليس في المغرب فقط ، بل في كل بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط،، لأنها تتعلق بمعركة إعادة الإعتبار لسلطة القانون ولمصداقية عملية الاقتراع والحياة السياسية، فانتصار لوبيات الفساد سواء كانت لوبيات المال أو العقار أو الإدارة أو الدين والتقاليد، سيكون علامة في غاية السلبية على انعدام الإرادة السياسية المطلوبة للمضي إلى الأمام.

يجعلنا هذا نقرّ بأنّ التحدي الأكبر أمامنا ـ وهو الخيار الصعب ـ هو تأهيل المجتمع وإشاعة قيم الوعي الديمقراطي النبيل، الأمر الذي يستدعي استجابة النظام التربوي ووسائل الإعلام، ودينامية أكبر من المجتمع المدني الديمقراطي، وتجديدا في النخب الحزبية ووسائل العمل التاطيرية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المنتخبون والسلطة، حتى نخرج من دائرة العبث المنتخبون والسلطة، حتى نخرج من دائرة العبث



GMT 14:23 2020 الأحد ,05 تموز / يوليو

بعض شعر العرب - ٢

GMT 08:03 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

وعادت الحياة «الجديدة»

GMT 07:58 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

المغامرة الشجاعة لمصطفى الكاظمي

GMT 07:54 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

لى هامش رحلة د. أبوالغار

GMT 07:51 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

«28 مليون قطعة سلاح»

GMT 07:48 2020 السبت ,04 تموز / يوليو

الفيس.. والكتاب!

GMT 10:48 2020 السبت ,27 حزيران / يونيو

الأطباء ورئيس الوزراء

GMT 10:46 2020 السبت ,27 حزيران / يونيو

وداعًا للشيشة!

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 18:14 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

محاضرة بتعاوني جنوب حائل السبت

GMT 23:59 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

مواهب صغيرة تُشارك في الموسم الثاني لـ "the Voice Kids"

GMT 18:15 2017 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيونسيه تسحر الحضور بـ"ذيل الحصان" وفستان رائع

GMT 22:17 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

جمارك "باب مليلية" تحبط عشر عمليات لتهريب السلع

GMT 02:20 2015 الثلاثاء ,22 كانون الأول / ديسمبر

أصغر لاجئة في "الزعتري" تجذب أنظار العالم لقسوة معيشته

GMT 01:31 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

مريهان حسين تنتظر عرض "السبع بنات" و"الأب الروحي"

GMT 02:54 2016 الخميس ,08 كانون الأول / ديسمبر

مي عمر سعيدة بالتمثيل أمام الزعيم عادل إمام

GMT 18:21 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

ليلة فوز الوداد.. الرياضة ليست منتجة للفرح فقط
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya