انفصــام

انفصــام!

المغرب اليوم -

انفصــام

بقلم : رشيد مشقاقة

ظل صاحبي يَتَحَيَّنُ فرصة اللقاء بأديبه الأثير حتى ظفر بها. ثم أتاني بعد مُدَّةٍ يقول:

ـ خاب ظني، لا علاقة بين ما أقرؤه للرجل وبين ما يفعل. إذا كانت هذه هي النخبة المثقفة فلك الله يا وطن!!

نعم، ليس مثقفك إلاّ نموذجاً لهؤلاء الذين لا يختلفون عن الماء والحرباء، لا لون لهم ولا طعم، ويأخذون شكل البساط الذي يضعون عليه أقدامهم، لذلك هانت على أولياء نعمتهم عملية استعمالهم واستغلالهم وتسليعهم وتجريف ما بأدمغتهم، فهم قابلون للطي والثني والإتْلَافِ، وهم بلا استقرار في الرأي، ولا إيمان في القلب، لذا يتهافتون على المكاسب والمناصب، وفي سبيلها يتقاضون ثمنا عن ضوضائهم ماضيا وحاضرا !!

وقد أبْدَى أحد الظرفاء استغرابه قائلا:

لازالت صورة المناضل في ذاكرتي ترتبط بذلك الرجل الأشعت، الحامل تحت إبطه رزمة من الجرائد، الممتطي صهوة قدميه جيئة وذهابا، حتى فوجئت بالمناضلين الجدد الساكنين بأرقى الفيلات، الممتطين أفخم السيارات، القابلين بانحناء الخدم والحشم أمامهم، أهذا نمط جديد من النضال!!

ليس من المستغرب أن يقصد بهذا الفئة أولئك الذين قال ممثلهم علنا “من أكل حَقَّهُ عليه أن يغمض عينيه”، في عملية تداول انتهازي للفرص !!

على أن ثمة فئة أخرى لم تدرك أسباب الغنى، تنطبق عليها مواصفات المثقف، فهي تملأ رأسها بالسياسة أو الفن أو الاقتصاد، ولا تجد فرصة للزعيق بما تفكر به، وقد تحرج بذلك من تُحرج، وتتصدر صورها الجرائد وبرامج الإعلام المرئي والمسموع. لكنها أدمنت على فَواحش شتى جعلتها هشة لا تأثير لها على مجريات الأمور:

يلتقط الكاتب الكبير ورقة من علبة “كلينيكس بالمَلْهَى الذي يرابط به ليلا لِيُخَرْبِشَ عليها تداعيات غيبوبته، لِنُفاجَأَ بصورته وما كتبه صباحا على صفحة جريدته تحت عنوان “الفكر والالتزام”.
يلقي المنظر الضخم خطبته العصماء في أفضال التكافل الاجتماعي والتعسف، في الوقت الذي يصر خفية على اقتناء عقارات فاخرة بثمن البيع نقدا ويدا بيد حتى لا يكتشف أمر ثرَائِهِ الفاحش.
يسجن المسؤول القضائي المتجهم الموظف البسيط الذي احتفظ لنفسه بعشرين درهما برضا صاحبها، ولا يخجل من نفسه وهو يسكن بأرقى الفنادق آكلا شاربا على نفقة المتقاضين أو من يمثلهم.
يُحابي الملتزم خصومه، ويقبل بما لا يرضيه، ويناصر من يدوس على الحقوق، وينسى أن ما في رأس الجمل لاَ يَخْفَى على الجَمَّالِ، ليجد نفسه في الهامش!!
يقف أشباه الفنانين على الأبواب متسولين ناسين المعاني السامية التي عبروا عنها بخشبة المسرح أو بين دفتى كتاب أو على نغمات الأوتار أو على المنابر، فَيَزْدَرِي بهم المانحون ويستعملونهم كراكيز تؤثث المشهد العام !!

هذا الانفصام المرضي لا ينفع فيه نصح ولا إرشاد، فالمبتلى به يستقوي بسواه إن كان في مركز اتخاذ القرار، ولو لفترة مؤقتة، والمبتلى به أيضا يستبلد من يحيط به معتقدا أنه بعيد المنال، وما هي إلاّ أوهام إلى زوال سيؤدي ضريبتها !!

عندما اكتشف ربان طائرة أن حمولتها تفوق المعتاد رُكَّابًا وسِلَعاً وتنذر بالسقوط، التفت إلى راكب يقرأ في كتاب تبدو عليه المهابة قائلا:

ـ هناك خطر محدق، الحمولة أكثر من المعتاد!! ستسقط الطائرة.

نظر إليه الرجل في شبه غيبوبة:

إذن، علّي أن انتهي من قراءة ما بقي من هذه الرواية قبل حصول الفاجعة !!

ضرب الربان أخْماساً بأسداس، وعاد من حيث أتى.

مثقفونا من هذا الفصيل: متهافتون يرددون مع المتنبي:

أنام مِلء  جُفوني عَنْ شَوارِدها        وَيخْتَصِم القَوْم جراها ويحتكِمُ

رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين

المصدر : جريدة اليوم 24

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

انفصــام انفصــام



GMT 04:53 2017 الأربعاء ,17 أيار / مايو

غَنِّي لِي شْوَيَّ وْخُذْ عينيَّ!

GMT 04:46 2017 الأربعاء ,10 أيار / مايو

السَّمَاوِي!

GMT 05:44 2017 الأربعاء ,03 أيار / مايو

شُفْتِنِي وَأَنَا مَيِّت!

GMT 05:01 2017 الأربعاء ,26 إبريل / نيسان

القاضي الشرفي!

GMT 04:55 2017 الأربعاء ,19 إبريل / نيسان

لاَلَّة بِيضَة!

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 18:14 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

محاضرة بتعاوني جنوب حائل السبت

GMT 23:59 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

مواهب صغيرة تُشارك في الموسم الثاني لـ "the Voice Kids"

GMT 18:15 2017 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيونسيه تسحر الحضور بـ"ذيل الحصان" وفستان رائع

GMT 22:17 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

جمارك "باب مليلية" تحبط عشر عمليات لتهريب السلع

GMT 02:20 2015 الثلاثاء ,22 كانون الأول / ديسمبر

أصغر لاجئة في "الزعتري" تجذب أنظار العالم لقسوة معيشته

GMT 01:31 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

مريهان حسين تنتظر عرض "السبع بنات" و"الأب الروحي"

GMT 02:54 2016 الخميس ,08 كانون الأول / ديسمبر

مي عمر سعيدة بالتمثيل أمام الزعيم عادل إمام

GMT 18:21 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

ليلة فوز الوداد.. الرياضة ليست منتجة للفرح فقط
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya