بقلم : عبد الحميد الجماهري
تركت الحرية مكانها للجيواستراتيجية لتحسم الحرب في سورية.
وما كان مظاهرةً في ظهيرة يوم حرية، أصبح حرباً دولية، لم تعلن بعد عن أسمائها كلها، ولا خارطتها النهائية،
ولم تسمح للشعوب بعد بأن تعد موتاها
وتنتقل من الذهول إلى الحقد الوطني.
ما زال في مقدور الحرب أن توسّع من المقابر، وتزيد في طوابق الذاهبين إلى النهاية، بمساعدة الترسانة الجديدة للحروب، قبل أن يتساوى المشاركون في الشطرنج «الشرق – أوسطي» في قراءة النتيجة وترتيب المغانم.
وسيكون على وعود الحرية أن تعيد تعريف اسمها: أكانت الشعوب تخرج من مغارة التاريخ الاستبدادي، أم كانت تستعد للعودة إليها؟
سيظل السؤال معلقاً، وإلى حين تنضج الكارثة، لتقديم الجواب، نلاحظ باندهاش مأساوي أنه ما كان من الممكن أن تزين ضفائر مراهقة حلبية وردةٌ أو «بروشنغ»، صار برنامج عمل للقوى التي ينتابها جنون التاريخ الشرقي، وتعود إلى أصل الإمبراطوريات، على خطى رتل طويل من المجنزرات والجنائز، لا فرق بين العبارتين هنا.
لننتبه إلى تحولات اللغة: الحرية قناع للحرب
والربيع مجرد خدعة خريفية!
ولعل أخطر ما قد تأتي به الحرب، بعد أن تضع أوزارها، أن يكون فلاديمير بوتين زعيماً كاريزميا، لكل الذين يرون، من دون أن ينتدبوا أنفسهم لضرب الغرب أو لتحويل الشرق إلى استيهامات استراتيجية، تضع بدل «ألف ليلة وليلة» ألف جثة وجثة، وألف «نيلة ونيلة» بلغة أهلنا في مصر الكنانة.
يفقد الشرق سحره مع مطلع كل حرب، ويفقد استهامات القادمين إليه من الغرب، لكنه لا يفقد خريطته وجغرافياه التي اعتادها العالم: بين كل إمبراطوريتين لا بد أن يضيع العرب وتضيع شعوب شرق المتوسط، من دون أن تعرف أين تبدأ الطائفة، وأين يقف الوطن.
وعند كل إمبراطورية تتولى الشرق، غربيةً كانت أو شرقية عمّدها الشرق بكل استراتيجياته، لا بد أن تضيع شعوب الأرض في شرق المتوسط بين أحلام ساداتها.
ومما يساعد فلاديمير بوتين، في الدفاع عن إمبراطورية شرقية، بلغة الإمبراطوريات الغربية الزاحفة فوق قبور الشرقيين، هو أنه يزداد قوةً وكاريزميةً مع مجيء الغرب إلى ثقافة الشرق الفحولية.
كذلك تم البحث عن القرابة، السياسية والذكورية في ممارسة التوازن العالمي، بين بوتين ودونالد ترامب، بل صار التحليل إلى اعتبار انتصار الرئيس الأمريكي الجديد تثبيتاً للنموذج الذي أقامه بوتين على شاشة العالم الدبلوماسية. ولعل أحسن وصف هو الذي كتبه باسكال بروكنير الروائي والباحث المعروف بقرابته الفكرية مع المفكرين الأحرار، إذ أدرج اسم ترامب ضمن من سماهم «نادي التيستوسطيرون»، إذ تفرز أدمغة الذكور قدراً أقل من مادتي أوكسيتوسين وسيروتونين، وقدراً أكبر من مادتي توستيستيرون وفاسوبريسين، بخلاف أدمغة الإناث، ما يدفع الذكور إلى الدخول في منافساتٍ سعيا إلى إثبات قدر أنفسهم وهويتهم، إلى جانب بوتين وأردوغان والهنغاري فيكتور أوربان، والذين ينافسون بعضهم بعضاً، ويدمرون معارضيهم.
والهرمونات هنا ليست محض بيولوجية، بل تكمن أيضاً في الاختيارات السياسية، حيث يقيم الكثير من قوة بوتين القادمة، ولعل من أهمها بناء تعريف جديد لهوية الغرب نفسه:
أولاً، تعريف جديد لموقعه السياسي الدولي، أو ما أشار إليها، فرانسوا كوسيت، باسم «الديمقراطية التي تتغذى من الحرب»، حيث يرى أن انتخاب ترامب سيفرض مواجهة حتمية ودولية بين غربٍ يبحث عن «التقوقع» داخل جدرانه وبلدان الجنوب، باعتبارها «المعطى الأيديولوجي والسياسي» الجديد.
ثانياً، باختيار مساعديه من الذين يجعلون من بوتين رمزاً للقوة المقابلة، ومنهم مايكل فلين، مستشار الأمن القومي الجديد للرئيس الأمريكي الذي يعرف الجميع أنه يسعى إلى إعطاء البرنامج النووي لكوريا الشمالية أولويةً قصوى في الإدارة الجديدة، وأنه سيعمل على تعزيز التحالف الأمريكي مع كوريا الجنوبية. وقد ترأس فلين جهاز الاستخبارات العسكرية (وكالة استخبارات الدفاع) بين عامي 2012 و2014، وأثار جدلاً بسبب تصريحات مناهضة للإسلام.
حسب كل وكالات الأنباء، فإنه يدافع عن تقاربٍ مع موسكو وبكين، وظهر خلال عشاء في موسكو مع فلاديمير بوتين الذي ظهر إلى جانبه في عز التوتر بين موسكو وواشنطن. غير أن ما يثير يساريين أو ليبراليين كثيرين في الغرب هو النزوع المتزايد لدى اليمين الغربي، ومنه اليمين المحافظ، بقيادة الفائز في الانتخابات التمهيدية لدى اليمين الفرنسي، فرانسوا فيون، أو اليمين المتطرّف في دول أخرى، نحو «افتتان» راديكالي بالرئيس فلاديمير بوتين في المشهد الانتخابي، والدبلوماسي العام في العالم.
لهذا، ينسى الغرب بسرعة تفوق النسيان المشرقي، أيام الحرية وأيام التظاهر من أجلها، ويفكّر بالتوازن بين القوى التي تهيمن على جدول أعمال… الحرب.
كان أخطر ما وقع في الحروب التي دارت في الشرق الأوسط أن عادت أحلام الحرية، كتوزيع السلطات والمراقبة الشعبية ومشاركة الشعوب في صناعة مستقبلها، أسماء مستعارة لشيء آخر يعرفه العسكريون وحدهم: المؤامرة على البلاد باسم أجمل ما قد يكون فيها، أي حلم شبابها بالسعادة ضمن وطن موحد، ونظام ديمقراطي ودولةٍ قويةٍ لا تخاف شعوبها.
المصدر :صحيفة الاتحاد الإشتراكي