الفشل المزدوج

الفشل المزدوج

المغرب اليوم -

الفشل المزدوج

بقلم - لمرابط مبارك

لا أتذكر كثيرا كل تلك الأحلام التي كانت تدغدغ أيام الدراسة الأولى. كنت أحملها في حقيبتي المتواضعة، وأضعها إلى جانب اللوحة السوداء بإطارها الخشبي ذي الرائحة النفاذة، وذلك الدفتر الحامل لجدول الضرب، وأدوات بسيطة أخرى. وإن حدث وسألتنا المُدرِّسة ذات الصوت الحاد عن أحلامنا، كنت أسارع إلى محفظتي وأستل منها حلما وأرفع أصبعي لأشهره أمام الأقران.
كنت أحلم أن أكون أستاذا لأصل إلى أعلى السبورة السوداء وأكتب التاريخ بخط جميل ولا أتعثر في رسم بطن حرف الحاء، ولما أعود إلى البيت يتوقف الصغار عن لعب الكرة لما يلمحونني ويهربون من أمامي أو يتقدمون لتقبيل يدي، وأشتري حتى أنا تلك السيارة التي تبدو مثل مركبة فضائية صغيرة (عرفت فيما بعد أنها سيمكا 1100).
كنت أحلم أن أكون طبيبا فألبس “الطابلية” وأضع السماعة على صدري، لكي أداوي رِجل أخي وأكتب الدواء لأمي كلما مرضت.
كنت أحلم أن أكون مهندسا لكي أبني المنازل وأضع لها “الدروج”، وأثبت فيها المصابيح حتى لا تكون مظلمة مثل “دروج” بيتنا.
كنت أحلم أن أكون طيارا وأسوق تلك الطائرة التي تحلق هناك بعيدا فوقنا وتترك خلفها خيطا طويلا من الدخان.
كنت أحمل أن أصير حتى أنا كاتبا، وأكتب قصة جميلة عن الحيوانات والحقول تماما مثل قصة “la chevre de monsieur seguin”.
كنت أحلم وأحلم.. وأحلم…
وأنا جالس فوق تلك الطاولة التي تاه منها اللون في تلك القاعة ذات السقف العالي كانت تبدو أحلامي كلها في المتناول.. فهي كلها في حقيبتي الصغيرة، وليس عليّ سوى أن أكبر قليلا لألبسها وتلبسني.
كنت أحس – وأجزم أن أقراني كذلك- أن المدرسة هي ذلك “السانسور”، الذي كنت أسمع عن كونه ينقل الناس إلى أعالي العمارات هناك في “لمدينة”، بالضغط على زر فقط.. ذلك “السانسور” الذي سيحملني دون عناء كبير إلى ذلك الأعلى، حيث تتحقق الأحلام.
وكانت فعلا كذلك. كانت المدرسة العمومية في تلك السنوات فرقا واضحا بين الذين أسعفتهم الظروف والتحقوا بها وقضوا فيها ما تيسر من السنين، وبين الآخرين الذين لم تطأ أقدامهم أو مروا منها سريعا، ثم وجدوا أنفسهم خارجها لسبب أو لآخر.
صحيح أن المدرسة كما قال المفكر عبدالله العروي توفر “ما هو تأديبي” (التمرين على صناعة القول والتعبير)، و”ما هو تأهيلي” (يمد التلميذ بوسائل المباشَرة مثل العلوم والفيزياء وغيرها)، و”ما هو تهذيبي” (ما يمس القيم والأخلاق)، ولكنها، كذلك، كانت وسيلة للانتقال من مستوى اجتماعي إلى آخر أفضل ماديا على الأقل.
لم تكن المدرسة صهوة أحلامنا نحن فقط، الذين أرادت لنا أقدارنا أن نرى النور في الأحياء الشعبية البسيطة مثل درب السلطان في الدار البيضاء مثلا، بل كانت أيضا أمل آبائنا وأمهاتنا القادمين من الأقاصي البعيدة أو المناطق القريبة إلى المدن الكبرى. فقد كان تمدرس أبنائهم ليكون لهم مستقبل أفضل، أحد الأسباب الرئيسة التي دفعتهم إلى النزوح من تلك الأماكن القاسية والقصية التي احتضنت تربتها طفولتهم.
لا شك أن المدرسة قناة أساسية ولا محيد عنها لنقل الكائن إلى مرتبة الفرد الكامل في فردانيته، ولكنها، كذلك، كانت دائما مصعدا اجتماعيا ناجعا نقلت أجيالا كاملة من مستوى اجتماعي إلى مستوى آخر أفضل بكثير، اقتصاديا واجتماعيا. وساهم هذا المصعد بشكل مباشر وغير مباشر في توسيع ثروة المجتمعات المتقدمة وتحسين توزيعها.
في المغرب، لم يشتغل مصعد المدرسة العمومية بشكل فعال نسبيا – على المستوى الاجتماعي والاقتصادي- سوى لثلاثة عقود منذ الاستقلال، قبل أن يعتريه البطء تدريجيا قبل أن يتوقف، بل ويتحول إلى “مهبط” يكرس الفقر والفوارق الاجتماعية والاقتصادية، حسب آخر تقارير المجلس الأعلى للتعليم والتكوين والبحث العلمي.
والمعضلة الكبرى هي أن المدرسة المغربية لم تنجح قط، في نقل الكائن المغربي إلى مرتبة الفرد لأسباب معقدة ومتداخلة يختلط فيها ما هو سياسي وثقافي وحتى ديني، ولا أفلحت في أن تكون مصعدا اجتماعيا واقتصاديا ينتشل المغاربة على الأقل، من مستنقع الفقر ويقلص ولو نسبيا من الفوارق.
أمام هذا الفشل المزدوج، هل مازالت عندنا فسحة من الآمل.. هذا الذي يسميه سيوران “الشكل السوي للهذيان”؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الفشل المزدوج الفشل المزدوج



GMT 00:03 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إذا كانت إيران حريصة على السنّة…

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب يطرد المدعي العام

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نَموت في المجاري ونخطىء في توزيع الجثث!

GMT 00:00 2018 الأحد ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم!

GMT 00:02 2018 السبت ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

استعدوا للآتى: تصعيد مجنون ضد معسكر الاعتدال

تمنحكِ إطلالة عصرية وشبابية في صيف هذا العام

طرق تنسيق "الشابوه الكاجوال" على طريقة رانيا يوسف

القاهرة - نعم ليبيا

GMT 18:14 2018 الجمعة ,05 كانون الثاني / يناير

محاضرة بتعاوني جنوب حائل السبت

GMT 23:59 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

مواهب صغيرة تُشارك في الموسم الثاني لـ "the Voice Kids"

GMT 18:15 2017 الإثنين ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيونسيه تسحر الحضور بـ"ذيل الحصان" وفستان رائع

GMT 22:17 2017 الأربعاء ,27 أيلول / سبتمبر

جمارك "باب مليلية" تحبط عشر عمليات لتهريب السلع

GMT 02:20 2015 الثلاثاء ,22 كانون الأول / ديسمبر

أصغر لاجئة في "الزعتري" تجذب أنظار العالم لقسوة معيشته

GMT 01:31 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

مريهان حسين تنتظر عرض "السبع بنات" و"الأب الروحي"

GMT 02:54 2016 الخميس ,08 كانون الأول / ديسمبر

مي عمر سعيدة بالتمثيل أمام الزعيم عادل إمام

GMT 18:21 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

ليلة فوز الوداد.. الرياضة ليست منتجة للفرح فقط
 
yeslibya

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

albahraintoday albahraintoday albahraintoday albahraintoday
yeslibya yeslibya yeslibya
yeslibya
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
libya, Libya, Libya